عادي

أخيراً.. الغنوشي في القفص

23:35 مساء
قراءة 4 دقائق

د. محمد فراج أبو النور*

التاسع عشر من يوليو(تموز) الحالي يوم بالغ الأهمية والخصوصية في تاريخ تونس السياسي الحديث. راشد الغنوشي زعيم حركة «النهضة» الإخوانية، ورئيس البرلمان المنحل، يمثل أمام العدالة- أخيراً- لمحاكمته بتهمتين خطيرتين: تمويل جماعة إرهابية وغسل الأموال.

التهمتان- على فداحتهما- هما مجرد بداية لمجموعة من الاتهامات الخطيرة التي سيخضع الغنوشي للمحاكمة بشأنها: الانتماء إلى جماعة إرهابية- الأحرى أن يقال تأسيسها وقيادتها، وتأسيس وقيادة «الجهاز السري لحركة النهضة» الإخوانية، وهو الجهاز الذي ارتكب سلسلة طويلة من الجرائم الإرهابية، في مقدمتها اغتيال القياديين الوطنيين المعارضين «شكري بلعيد ومحمد البراهمي».. الإضرار بالأمن القومي التونسي والتخابر مع جهات أجنبية.. اختراق أسرار الجيش وأجهزة الأمن القومي.. تنظيم وتمويل تسفير آلاف من الشباب التونسيين إلى مناطق النزاعات- وخاصة سوريا وليبيا- للالتحاق ب«داعش» و«القاعدة».. وغيرها من الجرائم التي يعاقب عليها القانون التونسي بالإعدام أو بالسجن المؤبد في حالة تخفيف الحكم لأي سبب.

«التمكين» الإخواني.. وتعطيل العدالة

السنوات التالية للإطاحة بحكم بن علي (يناير 2011) والتي امتدت لأكثر من عشر سنوات، شهدت سيطرة متزايدة لحركة «النهضة» على الحياة السياسية والاجتماعية للبلاد، تحت شعار «التمكين» الإخواني المعروف، والذي يقضي بالسيطرة على مفاصل الدولة السياسية والأمنية والإدارة والاقتصادية والمالية والثقافية والفكرية وغيرها.. وقامت «النهضة» بقمع المعارضة على نطاق واسع، ونشر الأفكار الإرهابية والمتطرفة، وإفساح المجال أمام ممثليها بما في ذلك تأسيس فرع تونسي لما يسمى «اتحاد علماء المسلمين» بقيادة القرضاوي، وهو الواجهة العلنية للتنظيم الدولي ل«الإخوان المسلمين» وتأسيس جمعية «نماء تونس»- 2011، التي اتخذت مظهر الجمعية الخيرية، بينما كان من أهم أنشطتها تسفير الشباب التونسيين المتطرفين إلى سوريا «أساساً» وليبيا للقتال في صفوف «داعش» و«القاعدة».. حتى أن أكبر عدد من المقاتلين في سوريا من دولة عربية واحدة، هم المقاتلون التونسيون! وكل ذلك بالتعاون مع بعض الأنظمة وأجهزة المخابرات الإقليمية.. وفي هذا السياق سيطر «الإخوان» على وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، بما في ذلك أجهزة البحث الجنائي، الأمر الذي أتاح لهم التلاعب بالأدلة والتحريات في مختلف القضايا على أوسع نطاق.

كما سيطروا على وزارة العدل، التي كان الدستور يمنحها الإشراف على القضاء والنيابة العامة، وتعيين وترقية وعزل أعضائها، والتدخل في تشكيل وعمل المجلس الأعلى للقضاء، وقام وزير العدل التابع ل«النهضة»- نور الدين البحيري- الذي تولى الوزارة من (2011- 2013) بحركة تطهير واسعة شملت 82 من كبار القضاة، بدعوى انتمائهم إلى نظام بن علي! كما قام ب«انتداب» حوالي ألف من المحامين والحقوقيين التابعين ل«النهضة» للعمل في سلكي القضاء والنيابة، دون أدنى مراعاة للضوابط العلمية والفنية اللازمة لتولي هذه المناصب بالغة الحساسية، وهم الذين عرفوا باسم «قضاة البحيري» في إشارة إلى تبعتهم ل«النهضة» وتحيزهم وفسادهم). وأدى تغلغل «الإخوان» في وزارتي العدل والداخلية إلى انتشار الفساد في منظومات البحث الجنائي والنيابة العامة والقضاء وشيوع ظاهرة التلاعب بالأدلة واختفائها وتعطيل إحالة القضايا إلى المحاكم وتقاعس القضاة عن الفصل في القضايا حسب الأوامر السياسية.

ومن أبرز هذه القضايا قضية اغتيال المعارضين القياديين (شكري بلعيد ومحمد البرهمي- 2013) والتي كانت أصابع الاتهام فيها تشير بوضوح إلى الجهاز السري ل«النهضة» وإلى الغنوشي شخصياً. ولكن التحقيق لم يصل إلى أية نتيجة للأسباب السالف ذكرها. ما يمثل فضيحة سياسية وقانونية كبرى.

قرارات 25 يوليو.. وعودة الأمل

مثلت قرارات 25 يوليو(تموز) 2021 التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد نقطة انعطاف بالغة الأهمية لانبعاث الأمل في عودة العدالة، بما في ذلك قرار سعيّد بجعل النيابة العامة تابعة مباشرة لرئيس الدولة، وفرض حراسة أمنية مشددة على مباني النيابة والبحث الجنائي، للحفاظ على ملفات القضايا وأدلتها.. وما تم بعد ذلك من حل المجلس الأعلى للقضاء بتهمة الفساد وتعيين مجلس مؤقت بدلاً منه.. وصولاً إلى بدء تطهير صفوف القضاء مؤخراً من «قضاة بحيري» والذي تمثل في عزل 57 قاضياً منهم.

وفي شهر يناير(كانون الثاني) الماضي (2022) تقدمت هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي بطلب إلى وزيرة العدل ليلى جفال بإعادة التحقيق في القضية، وأصدرت الوزيرة قراراً بإعادة التحقيق في القضية المذكورة وغيرهما من قضايا الإرهاب، بما فيها قضية «الجهاز السري لحركة النهضة» وقضايا التخابر والمساس بالأمن القومي، وتمويل الأنشطة الإرهابية بالتعاون مع دول وأجهزة مخابرات أجنبية، وتسفير الشباب للقتال إلى جانب «داعش»، والتواطؤ مع وجود الإرهابيين في المناطق الجنوبية للبلاد، وحركة الإرهابيين عبر الحدود التونسية- الليبية، وغسل الأموال وغيرها.

الاتهامات تحاصر الغنوشي

وكما كان متوقعاً، فإن إعادة التحقيق في قضية «بلعيد- والبراهمي» وفتح ملفات القضايا المشار إليها أعلاه للتوصل إلى خيوط وأدلة كثيرة أقامت التحقيقات، وسمحت بتوجيه اتهامات قائمة على أسس قانونية وموضوعية وجيهة، بفضل الحفاظ على الوثائق والملفات التي تمت حمايتها، وبفضل قيام رجال نيابة وقضاة تحقيق محترفين بالتعامل مع هذه الملفات.. وهكذا بدأت ترتسم ملامح الاتهامات بارتكاب جرائم خطيرة- كالتي أشرنا إليها- موجهة للغنوشي وغيره من زعماء «النهضة» بمن فيهم ابنه «معاذ» وصهره «رفيق عبدالسلام» وزير الخارجية الأسبق، ورئيس الوزراء الأسبق حمادي الجبالي (النهضوي) وابنتاه.. وغيرهم أكثر من ثلاثين من قيادات «النهضة».

ودون دخول في تفاصيل لا يتسع لها المقام، نقول إن القضاء التونسي بدأ في توجيه الاتهامات رسميا إلى الغنوشي شخصياً بالإرهاب وتمويل منظماته، والإضرار بالأمن القومي وغسل الأموال.. وتنتظره أكثر من قضية خطيرة غير قضية (19 يوليو).. كما يواجه رفاقه اتهامات بقضايا خطيرة أخرى وبناء على ذلك صدرت قرارات بمنعهم من السفر، ثم بتجميد أموالهم، وإحالتهم إلى المحاكمة.

وسواء صدرت ضدهم أحكام بأقصى العقوبة أم بعقوبات أخف، فالأمر المؤكد أن هذه المحاكمات تمثل ضربة سياسية و«قضائية» كبرى لحركة «النهضة» وزعمائها وتضع مستقبلهم السياسي جميعهم في مهب أعتى العواصف.

* كاتب مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"