نموذج ناجح وقوي

21:19 مساء
قراءة دقيقتين

د. لويس حبيقة*

تقاعدت أنجيلا ميركل من السياسة الألمانية الداخلية، وحل حزبها ثانياً في الاستفتاء الشعبي الأخير، من الممكن أن تحصل على مراكز دولية لاحقاً في الأمم المتحدة مثلاً، لكن الوقت الحالي سيكون للراحة. عموماً تمر الدول واقتصاداتها بفترات صعبة، بعد حروب أو خضات داخلية. ليس هنالك دولة مرت بتجارب صعبة أكثر من ألمانيا؛ إذ إنها مرت بحربين عالميتين دمرتا كل شيء، إلا أن الحكومات المتعاقبة أعادت البناء بذكاء وسرعة ودقة ونجاح.

أعادت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بناء نفسها مع ديمقراطية ترسخت في العقلية والممارسة والحياة السياسية، ونجحت ألمانيا في ذلك، وهي الآن تخيف حتى أقرب حلفائها. قال الرئيس فرانسوا ميتران، يومها، إنه يحب ألمانيا كثيراً، وبالتالي يرغب في بقاء ألمانيتين. هنالك دائماً محاولات لجذب البلاد نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة، إلا أنها لم تنجح، والانتخابات الأخيرة أكدت ذلك.

ارتكز النموذج الألماني الناجح على مزايا عدة؛ أهمها دولة لامركزية توزع النجاحات على كل أنحاء البلاد. بعد أكتوبر/تشرين الأول 1990، أصبحت العاصمة برلين موحدة. هنالك مراحل عدة مميزة في الحياة الاقتصادية؛ أهمها خلال فترتي حكم «هلموت شميدت» (1974-1982) و«غيرهارد شرودر» (1998 - 2005). هما من الحزب الديمقراطي الاجتماعي «SDP» الذي فاز في الانتخابات الأخيرة، والواقع على يسار الخريطة السياسية الداخلية.

طبعاً ميزان النجاح والفشل، يخضع للتفسيرات غير الموضوعية في معظم الحالات، إلا أن شميدت العارف اقتصادياً، قرّب ألمانيا كثيراً من الولايات المتحدة. كما أن شرودر فتح الاقتصاد على المنافسة، فحرر سوق العمل، وخفّض الضمانات الاجتماعية، لتخفيض كُلفة العمل، وبالتالي رفع الإنتاجية. نتج عن سياسات شرودر ارتفاع نسب الفقر والفجوة المادية الداخلية، كما تدنت الاستثمارات في البنية التحتية، ركيزة أي تطور صناعي وتكنولوجي. منذ ذلك الحين، أي منذ 2005 سمحت الأوضاع الداخلية والدولية للحزب الديمقراطي المسيحي بقيادة أنجيلا ميركل بالفوز والبقاء في الحكم. ركزت ميركل سياساتها على رفع الاستثمارات العامة، فنتج عنها انخفاض كبير في البطالة إلى 3.2% قبل اجتياح فيروس «كورونا» للعالم أجمع.

من ميزات النموذج الألماني الناجح، إعطاء قوة كبيرة للموظفين والعمال في إدارة الشركات، أي أن صوتهم قوي وفاعل، ولهم حق نقض القرارات. فالشركات الألمانية لا تخضع فقط لقرارات المالكين؛ إذ إن العمال يملكون صوتاً فاعلاً وأساسياً. من المساوئ، التقارب الكبير بين الشركات والمصارف عبر التعاون أو الملكيات المشتركة، ما خلق فرص تضارب مصالح خطرة. أما دور المرأة في الاقتصاد، فارتفع كثيراً مع ميركل ومن غير المتوقع أن يتغير ذلك مع المستشار الجديد أولف شولتز. هنالك اهتمام كبير من كل الأحزاب الألمانية بالشؤون البيئية، ومن المتوقع أن يبقى ذلك مع شولتز.

التحدي الكبير الذي يواجه شولتز اليوم هو كيفية إنقاذ الاقتصاد إذا انقطع الغاز الروسي فجأة. هنالك توجه داخلي للاستغناء التدريجي عن الطاقة الروسية، بسبب الحرب الأوكرانية إلا أن البدائل غير متوافرة كلياً بعد. يتوقف نجاح شولتز أو فشله على حسن إدارة هذا الملف الخطر.

* كاتب لبناني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"