عادي
لوحة تمزج بين التعبيرية والرمزية

«فريتزا ريدلر» لغوستاف كليمت تنطق بلسان الطبقة الوسطى

17:08 مساء
قراءة 4 دقائق
غوستاف كليمت

الشارقة: عثمان حسن
يصنف غوستاف كليمت (1862ـ 1918) أحد أبرع فناني النمسا على الإطلاق، ويعتبر أيقونة الفن الحديث في القرن التاسع عشر، وهو من رموز التشكيل الكبار، انتمى للمدرسة الرمزية وأصبح أبرز أعضاء حركة انفصال فيينا، اشتهر بلوحاته وجدارياته ورسوماته التي اهتم جزء كبير منها بالمناظر الطبيعية، كما تأثر بالفن الياباني وأساليبه.
في بداية مسيرته الفنية نجح في رسم العديد من الديكورات المعمارية بطريقة تقليدية. وحين بدأ في تطوير أسلوبه الفني صار عرضة للجدل الذي بلغ ذروته عندما انتُقدت اللوحات التي أكملها في عام 1900 لسقف القاعة الكبرى في جامعة فيينا، ولاحقاً حقق نجاحاً باهراً مع لوحات استخدم فيها نقوشا ذهبية وزخرفية.
جاءت شهرة كليمت من تميز أعماله التي تدمج بين الأسلوب التعبيري والرمزي، خاصة رمزية التزيين، وهو بالنسبة لمؤرخي الفنون أحد ركائز المدارس الفنية في العالم، وكان مجدداً، ولم يتقيد بالكلاسيكية، وابتعد عن النزعة الأكاديمية وبرع في إزاحة الفوارق بين روح الفن التطبيقي والحداثة التشكيلية.

من اللوحات المهمة في سيرة غوستاف كليمت واحدة بعنوان «فريتزا ريدلر» وهي من أوائل رسوماته التي تجسد زوجة المهندس الميكانيكي النمساوي الويز ريدلر، رسمها كليمت في 1906، وفريتزا بالنسبة لغوستاف امرأة تعبر عن ثروة ومكانة الطبقة الوسطى المتنامية في فيينا، وقد أبرزها في فستان شاحب، وظهرت بملمح امرأة هائلة ومتحضرة، واللوحة محفوظة اليوم في غاليري «أوستريشيتشه» في فيينا.
تعتبر اللوحة واحدة من الرسومات الناضجة للفنان، وقد قيل إن قماش الأريكة في اللوحة مستوحى من القماش الفرعوني، وهو ذاته ما يبدو في الجدار خلف رأس السيدة، وهناك ما يشبه الهالة التي تحيط بها كما يظهر في كثير من الأيقونات والرسومات الدينية.
تحمل صورة «فريتزا ريدلر» قصة غير معروفة، حيث فشل نقاد الفن والمؤرخون في العثور على وصف دقيق للأسباب التي تقف وراء هذا العمل، ومع ذلك فاللوحة عمل فني انتقائي يبرز جمال المرأة، جنباً إلى جنب مع أسلوب كليمت الذي عرف به.
تُظهر اللوحة امرأة واقفة بملامح مسيطرة، ورأسها مائل قليلاً، وهي تحدق بعيداً، وتبدو نمساوية من الطبقة البرجوازية، وتظهر كحال عارضات كليمت الكلاسيكية، حيث تبرز الخدود الوردية بشرة المرأة الفاتحة، مع حواجب مقوسة داكنة، وشعر كثيف ملون. اللون المستخدم في اللوحة هو الظل البرتقالي الفاتح، يمتزج بشكل طبيعي مع بقية مكونات اللوحة، والمرأة ترتدي فستاناً أبيض فاخراً، ومغموساً في طبقات من الحرير من الرقبة إلى أخمص القدمين.
أظهر غوستاف رقبة المرأة في غلاف ضيق من القماش، يعانق أكتافها وينسدل القماش في نسيج أبيض ورمادي بسيط، يتدفق إلى الكشكشة الملونة عند الكم.

الصورة
  • زخرفة

في منتصف صدر المرأة ثمة حجارة فضية اللون، وعلى جانبي أكمامها تظهر خامة أكثر ثراء. ويتدفق باقي الفستان بلون أبيض ورمادي باتجاه قدمي المرأة. من الواضح أن الفستان يتكون من مجموعة من الطبقات، وهي مهمة تفصيلية دقيقة حققها كليمت، الذي حرص على إبراز ملهمته واقفة في وضع مستقيم في الصورة، كما لو أنها تبرز جسدها بالكامل، تميل المرأة قليلاً إلى الأريكة، لكنها تحافظ على استقامة دائمة، كما تظهر الأريكة بالأبيض والذهبي، ودوامات ومنحنيات ودوائر في جميع أنحاء القماش، ويعبر هذا التصميم عن أسلوب الفسيفساء الكلاسيكي لكليمت.

  • براعة

في اللوحة يهتم كليمت بالتفاصيل، بإضافة مربعات صغيرة، كما غير نسيج الجدار خلف المرأة بإضافة لونين آخرين إلى يسار اللوحة.
وفي الجزء العلوي الأيسر من اللوحة، أضاف كليمت منطقة ملونة برتقالية زاهية مموجة وتقترن بمنطقة ذات نسيج برونزي تحتها. واستخدم كذلك تقنية الإسفنج لتوضيح النسيج البرونزي، وهذا أدى إلى خلق إحساس بأن اللوحة تنتمي إلى الريف، كما يظهر فستان المرأة الطويل وكأنها جالسة على سجادة خزامية، واللوحة بحسب مؤرخي الفنون من أنجح أساليب الفن الحديث عند كليمت.
رسم كليمت مئات الأعمال، فقد أسند إليه في 1894 رسم ثلاثية تشكيلية لتزيين سقف قاعة «ماغنا» في جامعة فيينا، على أن تكون تمثيلاً استعارياً لثلاث كليات هي كلية الحقوق، وكلية الفلسفة، وكلية الطب.
تعرض كليمت لكثير من الانتقادات اللاذعة بسبب أساليبه، ولكنه مع ذلك، كان بنظر النقاد حقيقياً وواقعياً، وأراد أن يعبر في لوحاته عما كان يفكر فيه. وتسبب أسلوبه في خسارته المادية التي رافقته ردحاً طويلاً، ولكنه ظل وفياً لفنه حتى لفظ آخر أنفاسه.
يشير مؤرخو الفن إلى مجموعة من التأثيرات التي أسهمت في تميز أسلوب كليمت، منها الفنون اليونانية والمصرية والبيزنطية، كما استلهم كذلك نقوش ألبريشت دورر، واللوحة الأوروبية في العصور الوسطى المتأخرة، وكذلك الفنون اليابانية، وتتميز أعماله برفض الأساليب السابقة، والاستفادة من العناصر والرموز التي تعبر عن دواخل الإنسان، وتؤكد «حرية» الفن واستقلاله عن الثقافة التقليدية.

  • سيرة

في عام 1876 حصل كليمت على منحة في مدرسة فيينا للفنون والحرف، حيث درس حتى عام 1883، وتلقى تدريباً كرسام معماري. لقد كان يقدر الرسام الأبرز في ذلك الوقت هانز ماكارت في عام 1877، بدأ مع شقيقه إرنست، وصديقهما فرانز ماتش العمل معاً، وبحلول 1880 أسس «شركة الفنانين»، وساعد في رسم الجداريات في متحف فيينا.
وبحلول 1890 ذاع صيت كليمت ورفاقه في جميع أنحاء الإمبراطورية النمساوية المجرية، وقد سبق ذلك تكليفه مع رفاقه بتزيين فيلّا الإمبراطورة إليزابيث الريفي، بالقرب من فيينا وفي عام 1886، طلب من كليمت ورفاقه تزيين مسرح بورغ في فيينا، بوصفهم من أبرز مصممي الديكور في النمسا.
في عام 1888، منح كليمت ورفاقه وسام الخدمة الذهبية، كما كلف برسم قاعة الاحتفالات في مسرح بورغثياتر القديم، وهو العمل الذي سيجعله يصل إلى ذروة شهرته. يتميز هذا الرسم، بدقته التصويرية، ويعد أحد أعظم الإنجازات في الرسم الطبيعي. ونتيجة لذلك حصل كليمت على جائزة الإمبراطور، وأصبح رساماً عصرياً في فن البورتريه، وفناناً رائداً في عصره.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"