معضلة التراث

00:36 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في مقاله المنشور يوم الاثنين الماضي بجريدة «الخليج» تحت عنوان «التراث مشكلة أم حل؟»، قسّم الكاتب والمفكر عبد الإله بلقزيز المشتغلين أو المهتمين بالتراث إلى فريقين، الأول فريق يتلمس في التراث حلولاً لمشكلات العصر، والثاني يرى أنه لا حلول لتلك المشكلات من دون التخلص من ذلك التراث. 

 ينتمي تقسيم بلقزيز إلى الاتجاه التقليدي والمعروف للمثقفين في تعاطيهم مع مسألة التراث، تقسيم نجده في العديد من الأدبيات التي تبحث تلك المسألة المعضلة، والتي يبدو أن من تصدوا لدراستها توزعوا في اتجاهات معقدة ومركبة، لا يمكن توزيعها على فريقين فقط. لم تنشغل النخب العربية في القرن العشرين بقضية مثل التراث، في المرحلة الممتدة من بدايات القرن حتى ثورة يوليو 1952 سنجد الكثير من المثقفين الليبراليين تصدوا للتراث مباشرة وأعادوا معالجته ليناسب العصر بأسلوب رفيع المستوى. هنا سنلحظ مثلاً أن المثقف العصري، أو ما أطلق عليه لاحقاً الحداثي أو العلماني، والمفترض فيه وفق تقسيم بلقزيز أن يدعو إلى التخلص من التراث هو من قام بنشره وترويجه، فكتب طه حسين وأحمد أمين ومحمد حسين هيكل والعقاد في السيرة وفي التاريخ العربي الإسلامي أعمال لا تزال مقروءة حتى اليوم، وهي أعمال لم تخطّها أيدي النصوصيين أو أصحاب النظرة المنغلقة المكتفية بالتراث فقط.

 بعد نكسة 1967، اتجهت جميع النخب الفكرية إلى التراث، وتحولت جماعة المثقفين صوب الماضي لتلتمس جذور أسباب الهزيمة، وخرجت مجموعة من أبرز المفكرين، والحداثيين المفترض فيهم القطيعة مع التراث، بقيم من تراثنا العربي الإسلامي تناسب العصر، وسنعثر على أسماء مثل حسن حنفي ومحمد عابد الجابري وحسين مروة ومحمد أركون..الخ، الذين حللوا التراث ودعوا إلى تفعيل ما يتوافق منه مع العقلانية والعلم والحياة في القرن العشرين.

 في تسعينيات القرن الماضي ومع صعود الجماعات المتشددة دينياً توجهت نخبة مثقفينا مرة أخرى إلى التراث، وبحثت فيه عن كل ما يدعم تصوراتها حول الدولة المدنية والتعددية وقيم التعايش، وتمسكت بما عثرت عليه في ذلك التراث في وجه فكر تلك الجماعات والتي كانت تتمسك بنصوص ترفض الآخر وأنتُجت في عصور الانحطاط والانهيار.

 لقد اشتغل معظم مثقفينا على التراث، وربما نعثر على صوت هنا أو هناك يدعو إلى القطيعة معه ولكن تلك الدعوة لا تشكل فريقاً أو تياراً، وهناك من رفع لواء هذه الدعوة في مرحلة من تطوره الفكري ثم تراجع عنها في مرحلة أخرى، واضطر أن يأخذ من التراث ما يوافق اتجاهه الفكري.

 لقد كانت هناك عدة أسباب موضوعية تدعو إلى الانخراط في التراث مع كل مفصل من مفاصل القرن العشرين، مرة بالسير على درب النهضة الأوروبية في إحياء التراث مع الليبراليين، ومرة مع القوميين في البحث عن مكامن قوة الذات، ومرة لمعرفة أسباب الهزيمة، ومرة لمواجهة التشدد الديني، وفي كل هذه الظروف كان يستحيل التخلص من التراث حتى لو أراد البعض ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"