تونس.. نهاية مرحلة

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. كمال بالهادي

بقدر ما يروّج التونسيون للمرحلة الجديدة التي بدأت فعلياً، يوم الثلاثاء الماضي، 26 يوليو/ تموز، بدخول الدستور الجديد حيّز التنفيذ، مثلما ينصّ عليه القانون، فإن الأهم هو طيّ صفحة ماض طويل سيطرت فيه طغمة حاكمة متنفّذة، هي زواج مصلحة بين لوبيات الفساد والسلطة السياسية، مهما كان شكلها.

 إن الأهمّ من التبشير بمرحلة جديدة ستتضح معالمها شيئاً فشيئاً بخطوات سياسية وقانونية واقتصادية، مع استكمال مرحلة البناء السياسي بإجراء الانتخابات التشريعية للغرفتين النيابيتين، وبتركيز المحكمة الدستورية، وتفعيل بند التمييز الإيجابي لتنشيط الحياة الاقتصادية، هو هدم منظومة سياسية كانت قائمة منذ عقود، ووسمها الفساد والتهميش وازدادت هذه المرحلة تأزماً عندما بسطت جماعة «الإخوان» يدها على الحكم منذ سنة 2011.

 إن توجه نحو 2.5 مليون ناخب للتصويت على الدستور الجديد، يحقق مكاسب عدة للرئيس سعيّد، ولمشروعه السياسي إجمالاً. فالرئيس بهذا العدد من الناخبين يؤكد شرعيته الانتخابية، ذلك أنه حافظ على النسبة نفسها من الناخبين التي منحته ثقتها في انتخابات 2019، وهو الذي لا يملك حزباً سياسياً، ولا ماكينة إعلامية تخدمه، ولا جهازاً انتخابياً منتشراً في كامل البلاد، يخدمه صباحاً ومساء، بل إن الأهم في هذا الاستفتاء أنّه أغلق مرحلة سياسية كانت فيها الشرعية مستمدة من «ديكتاتورية» الحزب السياسي الذي يطبق على الدولة ويوظفها لمصلحته. لقد استطاع سعيّد للمرّة الثانية هزيمة الأحزاب التي قاتلت حتى النهاية لإفشال المسار الانتخابي، وهو بهذا يطوي صفحة الأحزاب السياسية التي لا تتغيّر.

 وفي إطار طي صفحة الماضي، يهزم الرئيس قيس سعيّد رموز المعارضة التونسية الذين باتوا يشكّلون ما يمكن تسميته «ديكتاتورية المعارضة»، فهؤلاء الرموز من قبيل أحمد نجيب الشابي، وراشد الغنوشي، وحمّة الهمامي، عاصروا كل رؤساء تونس، وهم جاثمون على أحزابهم، ويسعون دائماً إلى احتكار المعارضة وإغلاق الأبواب أمام أيّ أصوات تونسية معارضة جديدة تحمل فكراً بنّاء. والغريب أن هؤلاء يتصدّرون في كلّ استطلاعات الرأي التي تجريها مراكز سبر الآراء في تونس، المراكز الأولى في الشخصيات السياسية التي لا يثق بها الشعب التونسي، ثم يحتكرون الحديث باسمه. لقد أنهى سعيّد بهذه المحطة أسطورة «الديناصورات السياسية»، كما يصفها الشارع التونسي.

 والمهم أيضاً في نظرنا، أنّ تلك المرحلة التي تميّزت بسطوة الفاسد آن لها أن تغلق نهائياً، وأن تفتح ملفات المحاسبة لكل من أجرم في حق هذا الشعب، سواء من السياسيين، أو من لوبيات المال النافذة، التي جعلت تونس، رغم كل إمكاناتها المادية والمالية وطاقتها العاملة وشراكتها مع كبرى القوى الاقتصادية في العالم، بلداً مفقّراً، ومنهوب الثروات، يعتمد على المساعدات الدولية والهِبات الخارجية، مع ارتفاع نسب البطالة والفقر بمستويات قياسية، علماً بأن مجمل السكان هو في حدود 12 مليون نسمة، وهو رقم أقل بكثير من سكان مدينة في دول أخرى. إنّ تونس المفقّرة صفحة يجب أن تطوى، وإلى الأبد، لأنها فعلاً ليست دولة فقيرة من حيث الإمكانات والموارد، بل هي دولة نهبها «المغول» السياسي والديني والمالي، وجعلها أرضاً طاردة لأبنائها.

 إنّ طيّ هذه الصفحات مجتمعة هي الأرضية الحقيقية التي يجب أن يقوم مكانها بناء جديد وصرح تونس المختلفة، كما أكد ذلك الرئيس قيس سعيّد في أكثر من مناسبة. ولا شيء يمكن أن يقنع الشعب التونسي بعد تجديد العهد لقيس سعيّد سوى أن يروا تونس الجيدة تولد في خطوات ثابتة، وحاسمة في القطع مع الماضي. ولن يكون المستقبل مشرقاً إلاّ إذا تمت تصفية إرث تلك الحقبة، وتلك المنظومات التي أرهقت التونسيين. 

 وهذه هي المهمة التي يتحملها قيس سعيّد، وهو منوطة به الآن مواصلة المسيرة وعدم خذلان الشعب بعدما خذلته كل القوى السياسية التي حكمت في الفترات الماضية.

 إنّ تلك الملايين التي توجهت إلى صناديق الاستفتاء هي تلك الأصوات الصادقة المؤمنة بتونس الجديدة، وهي التي راهن عليها الرئيس، وعليه الآن تحقيق بقية الوعود. خاصة فكّ شفرة الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعلاج أسبابها العميقة، وإعادة الروح لكل المناشط الاقتصادية واستثمار الممكنات والفرص وتحويلها إلى قدرات خلاقة. والشعب التونسي قادر على صنع المعجزات. فقد فعلها في كثير من المرات حينما ظن المتربصون به أنه مات، ويقاد إلى المقبرة. تونس يجب أن تنهض الآن، وأن تنفض غبار مرحلة قال عنها الرئيس إنها لن تعود أبداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي وباحث في قسم الحضارة بجامعة تونس

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"