سلوك قلق جديد

00:13 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

المتابع للنقاشات التي تدور عبر شبكات التواصل الاجتماعي العربية سيلاحظ، في الحال، أن أغلبية المتناقشين يتصرفون كأنهم خبراء ضليعون في الموضوع الذي يجري النقاش بشأنه. إنهم يؤكدون انتشار وترسخ ظاهرة يتحدث عنها الغرب بقلق متزايد: ظاهرة موت الخبير، موت العالم المتمكن من المعرفة، إذ أصبح الكثيرون في الغرب، من بين الناس العاديين، لا يثقون بالعالم الخبير، وإنما بقدراتهم وفهمهم وتجاربهم الشخصية.

وقد بدأ خبراء الطب والقانون والعلوم النفسية، وغيرها من حقول المعرفة، يشيرون إلى ظاهرة عدم استماع الناس العاديين لآرائهم العلمية ونصائحهم، ويفعلون ما يرونه صحيحاً اعتماداً على إشاعات، أو ثرثرات، أو مصادر مشكوك في كل محتوياتها.

ولذلك، فأنت لا تسمع على شبكات التواصل أسئلة تستفسر، ولا تراجعاً، أو شكوكاً في ما قاله المتحدث، وإنما تسمع فقط وثوقاً تاماً لا يتزحزح في ما يقوله المتحدث. وهذا يحدث على الأخص عند مناقشة المواقف السياسية، أو العقائد المذهبية، أو محاولة فهم الأوضاع الجارية. والنتيجة هي أن تصبح المناقشات غير منضبطة، ولا معتمدة على معلومات علمية، وتنتهي بصراخ، وقطيعة، ومن دون أي حسم معقول لموضوع المناقشة.

اسأل الأطباء، وسيخبرك بعضهم أن مرضاهم أصبحوا يخالفونهم الرأي والنصح، وسيحيلون الطبيب إلى مصدر قرأوه على شبكة الإنترنت، وليس إلى مقال في مجلة طبية محكمة. واسأل علماء النفس بشأن بعض الآباء والأمهات تجاه تشخيصهم لأمراض أطفالهم أو لسلوكات أحفادهم، إذ إنهم أدرى بأحوال أطفالهم وأحفادهم من طبيب، أو عالم النفس. وأصبح كل من هبّ ودبّ لهم آراؤهم واقتناعاتهم حول الأغذية الضارة وحول مياه الشرب والنوم ونوع وكمية الرياضة.

ما الذي حدث؟ أغلب الظن هو الانفجار المعرفي السطحي، والمستعمل بانتهازية في الشبكات الإلكترونية والتواصلية، وأنه أيضاً نشر المقولة الشعبية بأن المعرفة قابلة لأن يفهمها ويستعملها كل البشر، وأنها ما عادت حكراً على أحد. الجميع متساوون في الفهم وفي الاستفادة، وأنه أيضاً كرد فعل لفضائح بعض الخبراء والعلماء العلمية والأخلاقية والضميرية، بل قد يكون أيضاً بسبب فقدان الكثيرين ثقتهم بالسياسيين ومؤسسات الحكم ومراكز البحوث ومؤسسات الإعلام، وحتى مؤسسات الدين، ليصبح الشك وعدم الثقة بكل شيء أحد أبرز سمات العصر الذي نعيش. دعنا نذكّر بالذين شككوا في وجود فيروس «كوفيد-19 » وأكدوا أنها ليست إلا مؤامرة، وبالذين كتبوا وقالوا إن اللقاحات ضد «كورونا» ليست إلا حبكة استغلالية لزيادة ثروات شركات الأدوية، ورجوعاً إلى الوراء نذكّر بالذين شككوا في وجود فيروس الإيدز. نحن هنا لا نتحدث عن الألوف، وإنما نتحدث عن الملايين من بشر العصر الذي نعيش.

نحن الآن في عصر الانتشار الهائل للمعلومات، المتناثرة والمتناقضة والمثيرة لأنواع لا حصر لها من العواطف والأفكار البدائية الخاطئة، التي لا تؤدي إلى المعرفة العقلانية المتوازنة المتواضعة. أما الحكمة في الحياة العامة وحياة الجماعات فقد أصبحت من النوادر.

لا أحد ينكر أن العلماء والخبراء يمكن أن يرتكبوا الأخطاء. لكن ذلك لا يبرر المكانة التي يريد البعض أن يوصلهم إليها من خلال الاعتقاد الأعمى بالتطورات الهائلة في المعلومات، وفي وسائل انتشارها، وجعلها تقترب من أن تكون من المقدسات الشعبية العامة.

مقاومة هذا المرض الجديد، مرض علاقة البشر العاديين بالخبراء والعلماء وشعور البعض بأن تطورات العصر المعلوماتية والتكنولوجية ستغني عن الحاجة للآخرين، تحتاج أن يُتعامل معه من خلال الوقاية، وهذه يجب أن تصبح من مهام المدرسة والجامعة لتضاف إلى مهامهما الكلاسيكية السابقة. التعامل بالمعلومات لئلا ينقلب إلى سلوكات مضحكة أو مضرة يحتاج إلى أن يكون في قائمة مسؤوليات هذا العصر الذي لا يتعب من توليد المشاكل المقلقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"