ضرورة النقد

00:15 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

شهد العقد الأخير من القرن العشرين رواج مقولات عدة، كانت تصب جميعها في خانة نهاية الأفكار الكبرى؛ منها موت المؤلف.. موت المثقف.. موت الناقد..إلخ، كانت جميعها تعبر عن تقلبات سياسية دراماتيكية من ناحية، وتتسق مع ساحة تمهد الطريق إلى غزو أدوات وتقنيات التكنولوجيا الحديثة من ناحية أخرى، هذه الأخيرة لم تلبث أن فرضت قيمها، فأصبح لها أفكارها ونخبتها وجمهورها، لكن هل كانت المتغيرات السياسية والعلمية هي السبب المباشر والوحيد لتراجع قوة الفكر وهيمنة المثقف وأهمية النقد، أم أن هذه الفضاءات جميعها كانت تتضمن العديد من الإشكاليات البنيوية التي وصلت إلى طريق مسدود بالفعل؟

لنأخذ مثلاً مقولة مثل موت الناقد؛ حيث سنلاحظ أن غياب النقد الذي نعيشه الآن على المستويات كافة: اجتماعية وفكرية وأدبية، كان نتيجة منطقية لحالة تكلس واضحة، أصابت النقد في العقود الأخيرة من القرن الماضي، فنتيجة لظروف عديدة بدا أن الجميع يتحسسون من النقد، ولم تلبث نظرياته ومناهجه أن تقوقعت على نفسها، واتجهت أكثر ناحية النخبة، وتميزت لغته بالصعوبة، وتجنب الكثير من النقاد الإدلاء برأيهم صراحة، واشتغل أبرزهم على تفكيك النصوص، وغرقوا في نظريات اللغة، وأصبح المنتج النقدي الأدبي والفكري، يخاطب المتخصصين أو الأكاديميين، أما في مستوى النقد السيّار في الصحف والدوريات، فتأثر بمقولات رائجة تميزت بالسخف الشديد، منها ضرورة أن يكون النقد موضوعياً، ومنها ألا ينحاز الناقد لموقف معين، أي نزع أهم أسلحة النقد من أيدي المشتغلين به، وانتشر ما عُرف ب«النقد الانطباعي»، وسادت المجاملات و «الشللية»، وبات النقد الموزون «يونانيا لا يُقرأ»، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير التراثي.

مع تلك الحال التي وصل إليها النقد، بات الفكر والأدب والفنون في قبضة القائمين عليها، وعرضة لتحولات ذائقة الجمهور، ومع صعود هذا الأخير عبر مواقع التواصل، أصبح الجميع يدلي برأيه، ونشأت ثقافة جديدة، فالكل يكتب من دون دراسة أو خلفية أو معرفة، حالة انفلات لا ضوابط لها، وهي لن تنتقد نفسها، وتفرز الجيد من الرديء؛ بل بعد سنوات طويلة يبدو أن العكس هو الصحيح، فالرديء هو الذي يسود.

النقد ليس ترفاً فكرياً أو ثقافياً، ولكنه ضرورة وحيوية لفعل الكتابة نفسه، وفي مختلف المجالات حتى السياسية والاقتصادية، وهل يمكن لقراءة سياسية تحليلية أن تكتمل من دون وعي نقدي؟ لقد وصل النقد ذات يوم إلى مكانة عليا حتى تحدث البعض عن الحاسة النقدية والعقلية النقدية.

لا ثقافة بمعناها الواسع والكلاسيكي من دون نقد، ومن يراجع التاريخ سيدرك ذلك جيداً، ففي فترات الازدهار والنهوض، كان الناقد في المقدمة، هو الذي يقرأ ويتابع ويُدلي برأيه، وينتج الأفكار، كان الناقد ذلك الشخص الذي لا تكتمل منظومة الثقافة من دونه، أما في فترات التراجع والانحطاط، فكان الناقد يتوارى في الخلفية، ليترك الساحة لكل من شاء أن يكتب على هواه أو لجمهور لا يجد من يرشده، فيفرض ذائقة اتسمت دوماً بالسطحية والركاكة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"