من أزمة إلى أزمة

00:43 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

مسكين إنسان هذا الزمان، يدّعي المعرفة والقدرة على تطويع الطبيعة لصالحه، وهو العاجز أمام الأزمات التي تلاحقه من يوم إلى آخر. بالأمس أجبرنا جميعاً فيروس «كورونا» على التزام بيوتنا وعدم الخروج منها إلا للضرورة، وحصد من أرواح سكان الكوكب الملايين، وقللت اللقاحات والأدوية من عدد ضحاياه، لكنها عجزت عن القضاء عليه، وأمام الانهيار الذي تعرض له الاقتصاد العالمي رضخت الحكومات للتعامل مع الفيروس باعتباره واقعاً علينا تقبله واتخاذ إجراءات الوقاية التي تمنع تمدّده وانتشاره وتقلل من آثاره، واليوم يعود هذا اللعين ولا تملك البشرية أمامه سوى إجراءات يلتزم بها القليل من الناس، ويتمرد عليها الكثير على الرغم من أن معظم مليارات الكوكب الثمانية قد تجرع آلامه وتوّجع من مضاعفاته، ولكن لا صوت يعلو على صوت الفوضى الإنسانية وعدم الالتزام والخروج عن قواعد الحماية والوقاية. 

قبل أن يغادرنا «كوفيد  19» يتجدد علينا فيروس جدري القرود القادم من مناطق الغابات الاستوائية المطيرة في إفريقيا مخترقاً الحدود بين الدول، منتشراً بين الناس في 74 دولة، بأعراضه المزعجة المتمثلة في الحمّى والطفح الجلدي وتضخم الغدد الليمفاوية، ومجموعة من المضاعفات الصحية. وتراوحت نسبة الوفيات من مجموع الإصابات به بين 3 و6% تقريباً، ويبدو أن أوروبا التي كانت الأكثر خروجاً على قوانين الطبيعة باسم الحرية الفردية، أصبحت الأعلى إصابة بجدري القرود بعدما كانت الأكثر تأثراً بكورونا، ومثلما تسبب «كوفيد  19» بإصابة أهلها بالهلع، أصبح جدري القرود مصدراً لرعب كثير من سكانها بعد تسجيل دول مختلفة فيها، أعلى نسبة إصابات بالفيروس القديم المتجدد. 

وكأن كوفيد  19، والجدري، وغيرهما من الفيروسات لا تكفي، لتأتي موجة الحر غير المسبوقة نتيجة التغيرات المناخية لتضيف للإنسانية هلعاً على هلع، وتجعل ملف الكوارث المتلاحقة متخماً، لعل صناع القرار حول العالم يفيقون من غفوتهم، ويتخذون من الإجراءات ما يمنع التمادي في الاعتداء على الطبيعة، وتفرض على الدول الصناعية الكبرى إعادة النظر في سياساتها المتسببة في ازدياد الاحتباس الحراري الذي ينعكس حراً وبرداً وأعاصير وسيولاً وحرائق وفيضانات وانهيارات أرضية وثلجية وزلازل وبراكين، وجفافاً وفيروسات وأوبئة وأمراضاً وموتاً وخراباً ودماراً على الإنسانية. 

شهدت الأيام الماضية موجة حر قلبت الأراضي الخضراء إلى صحراء جرداء، وحولت أوروبا من مزار صيفي لسكان الكوكب بحثاً عن الاعتدال المناخي، إلى أرض طاردة لسكانها ليهرب المقتدرون إلى دول مختلفة بحثاً عن الأمان الحياتي، بعد أن ضاق الناس ذرعاً جراء ارتفاع درجة الحرارة بشكل غير معهود، حاصداً أرواح المئات، ومحوّلاً مساحات شاسعة من الأراضي والغابات والحدائق إلى صحراء جرداء في دول كان سكانها يشكون عدم ظهور الشمس على أراضيها معظم أيام السنة. 

الشمس لم تعد تكتفي بزيارة أوروبا وأمريكا الشمالية بعض الوقت خلال الصيف، ولكنها تحولت إلى كابوس يزعج أهل القارتين، ويمحو عنهم امتيازاً كانوا يتمتعون به، فقد تجاوزت درجات الحرارة المعقول، ولم تقتصر تأثيراتها على حياة الناس، وإرباك دول لم تضع في حسبانها ذلك، وهي تؤسس مدنها وشوارعها وبناياتها الخالية من البنى التحتية وأجهزة التكييف التي يمكن أن تساعد على مواجهة المد الحراري القاتل القادم إليهم وهم غافلون. 

ارتفاع الحرارة ألقى أيضاً بظلال قاسية على الشجر والحجر، فقد اندلعت الحرائق في ملايين الهكتارات في دول أوروبية مختلفة وطالت مدناً أمريكية، لتلتهم الغابات وتصيب الأرض بالجفاف وتحوّلها إلى صحراء جدباء، لا تختلف كثيراً عن الصحراء الممتدة في دول مختلفة في إفريقيا.  وفي دولة مثل بريطانيا لم تكتف الحرارة بالنيل من الأراضي والغابات؛ بل امتدت الحرائق الناجمة عنها إلى العاصمة لتنال من مبانٍ سكنية وتحوّل حديقتها «الهايد بارك» الأشهر عالمياً إلى أرض جدباء بعد أن ظلت عقوداً خضراء جاذبة للسياح، ملهمة للبريطانيين، ومنبراً للتعبير للغاوين من مختلف أرجاء الدنيا. 

وفي المقابل سقطت أمطار شديدة وسيول غير معتادة على الجزيرة العربية في عز الصيف، ونجحت الإمارات وغيرها في التعامل الحكيم مع الأزمة، لتمحوَ آثارها في وقت قليل، ولكن ذلك لا يمنع من دراسة الظاهرة الطارئة والناجمة عن التغير المناخي.

التغير المناخي ليس مزحة، والاحتباس الحراري ليس نكتة ولا وسيلة لابتزاز الدول بعضها بعضاً، ولكنه حقيقة تستلزم وقفة عالمية وإلا ستزداد الكوارث والأوبئة حصاراً للبشرية، وإذا لم يتحرك الزعماء بسرعة فستصب الطبيعة جام غضبها على الإنسانية، ولن يستطيع أحد مواجهتها بعد فوات الأوان.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"