عادي

هيدجر.. فيلسوف الغابات السوداء

00:11 صباحا
قراءة 3 دقائق
1804
  • رفض الموقف الاختزالي الكمي من الطبيعة

القاهرة - الخليج:

عشية الحرب العالمية الأولى، كانت الهوة تتسع في أنظار المثقفين بين وعود البرجوازية الحاكمة في الغرب وبين واقعها، أي بين أيديولوجيتها وممارستها، فبرزت الحاجة إلى ثورة في الفكر والفعل، وانتشرت كلمة الثورة على الألسن والأقلام، وفي مدرجات الجامعة والمصانع والمتاريس في الشوارع، وبدا الوجود الإنساني متشيئاً، يحتاج إلى قوة اجتماعية تحرره، وإلى فكر يضيئه.

كان النفور من الأوضاع السائدة أوسع مدى من جاذبية الحلول والبرامج، والبحث عن حفاري قبور، أهم كثيراً من ترويج فراديس موعودة، وقد ترددت في أبراج الفلسفة العالية صيحات الأزمة والثورة كذلك، وارتفع شعار رفض فلسفات تزعم أنها ثورات تعيد بناء الفلسفة ابتداء من الأساس في أقسام الفلسفة الأكاديمية.

وفي ألمانيا النازية المهزومة الذليلة بعد الحرب الأولى– بحسب بيير بورديو في كتابه الأنطولوجيا السياسية عند مارتن هيدجر– كان الوضع الاجتماعي للمثقفين عموماً وسط التعاسة العامة مرتبطاً بتلك الأقسام من المجتمع المنتمية تاريخياً إلى ما قبل الرأسمالية، أي إلى الفلاحين والحرفيين وصغار التجار الذين زلزل تطور الرأسمالية طرائق حياتهم، وخرج من أبنائهم المتحدثون باسمهم في السياسة والأدب والفلسفة.

ويتساءل لوسيان جولدمان في كتابه «لوكاتش وهيدجر» كما يتساءل بعده بيير بورديو: لماذا وصل النقد الثقافي للرأسمالية الذي مد جذوره بين المثقفين عموماً وبين الكتاب والشعراء إلى تعبيره الأكثر حدة ونسقية وتماسكاً في دوائر الجامعة، أي لماذا صارت الجامعات مراكز لما يمكن تسميته بالأيديولوجية الرومانسية المعادية للرأسمالية؟ لقد سقطوا – أي الجماعة الأكاديمية – عن مراكزهم الاجتماعية الممتازة التي كانت لهم في ألمانيا خاصة في القرن التاسع عشر.

كان أساتذة الجامعات يتحكمون في نظام التأهيل الوظيفي بأكمله، وكان لهم دور استراتيجي حاسم أمام الهيكل الإداري للدولة وفي المناصب العليا والمهن الحرة، لكن هذا النعيم زال بعد التحول الصناعي وتوحيد السوق والأمة، وقد تقدمت ألمانيا إلى ثاني قوة صناعية في العالم بعد أمريكا، ما أدى إلى حدوث أضرار شديدة بالاقتصاد وأسلوب الحياة والقيم الاجتماعية الثقافية لكل الفئات السابقة للرأسمالية وخاصة أساتذة الجامعات في الإنسانيات بعد «أمركة البحث العلمي» وسيادة فروع الفيزياء الرياضية والكيمياء.

ويرى تيري إيجلتون أن هيدجر كان من الذين رفضوا عقلانية التنوير بموقفها الاختزالي الكمي النفعي من الطبيعة ودعوا إلى إحلال إصغاء متواضع للنجوم والسماوات والغابات، وهو إصغاء يحمل كل سمات فلاح مذهول، فالإنسان يجب أن يفسح مكاناً للوجود بتسليم نفسه بالكامل له، أي يجب أن يعود إلى الأرض الأم التي لا يمكن استنفادها فهي النبع الأول لكل معنى، إنه فيلسوف الغابات السوداء، وداعية رومانسي لمجتمع المشاركة الجماعية العضوي، وهو يمجد الفلاح والحرفي وأدواته وعلاقاته في مقابل الحط من شأن الإنتاج الآلي الكبير والعقل النفعي.

هل اقتصر هيدجر على مجال فلسفي محدد يختص بالسمات الضرورية للوجود الإنساني في ذاته دون تقييم من جانبه لآخر مراحل التاريخ الإنساني؟ إنه يذهب إلى أن الكائن الإنساني يتشكل بواسطة الزمان، والزمان عنده ليس وسيطاً نتحرك فيه، كما تتحرك حزمة طافية من القش في نهر، فهو صميم بنية الحياة الإنسانية نفسها، بعد من أبعاد الوجود يصنع الإنسان ابتداء منه، قبل أن يكون شيئاً ما يقيسه..

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"