د. مصطفى الفقي
لا يكون الحوار الوطني شاملاً إلا إذا كان متصفاً بالإعداد الجيد له والانفتاح الكامل على مختلف الأفكار التي تشتبك معه في أرضية وطنية واحدة، فذلك هو الضمان الوحيد لتحقيق حدٍ أدنى من النجاح للحوار البنّاء الذي يسمح بتزاوج الأفكار وتضارب الآراء وتقديم مبادراتٍ جديدة لحل المشكلات القائمة، كما أنني أظن أن هناك ضرورة للدخول بورقة عمل متفق عليها بحيث يكون الحوار محكوما بأجندة واضحة وجدولٍ زمني محدد لأن من أكبر مشكلاتنا دائماً انعدام الروابط والضوابط في مناقشاتنا الفكرية والسياسية، ولا بأس من أن تكون الورقة النهائية المتضمنة لمشروع الحوار وطبيعة المناقشات هي خلاصة ما تم تقديمه من الأحزاب السياسية والقوى الفكرية الدافعة لقضايا الحوار حتى ولو كان ذلك في اتجاهاتٍ متعارضة، فالمدخل الحقيقي لأي حوار هو أن تكون هناك أجندة واضحة لتسيير أعماله وتحقيق المنتظر منه، وفي ظني أن الأمر يتوقف على عددٍ من العوامل أهمها ما يلي:
أولاً: أهمية دراسة المشهد القائم والقيام بعملية مسح شامل لكل المشكلات، التي طرأت على الساحة في السنوات الأخيرة وارتبطت بالجهود الضخمة للإصلاح والتنمية، وتكريس الحد الأدنى من الدخل الشهري للفقراء ومحدودي الدخل على امتداد خريطة الوطن، بما في ذلك تطبيق المشروع الضخم الخاص بحياة كريمة، فضلاً عن توافر الغذاء والعلاج والاهتمام المتزايد بالقرى المصرية.
ثانياً: إنني أتمنى أن تكون هناك جلسات متخصصة يعنى بعضها بالصناعة المصرية ومستقبلها وإعطائها أولوية على غيرها، فالعمران مطلوب وهو بمثابة (الهارد وير)، ولكن التفوق التقني والتقدم الصناعي هو (السوفت وير) الذي يجسد عملية التنمية ويفتح الأبواب أمام رخاءٍ طال انتظاره عبر العقود الأخيرة، وأتمنى أيضاً أن تكون هناك جلسات خاصة بالزراعة وشؤون الفلاح المصري حارس التاريخ وديدبان العصر، ولقد كنت أجلس في سرادق عزاء منذ أيام وجلس بجانبي فلاح مصري مثقف يحمل شهادةً جامعية ويعيش في قريته ويزرع أرضه، قال لي يومها إن أحوال الفلاح المصري صعبة، ورغم أن الدولة تسعى لرفع أسعار المحاصيل وتحسين وضعه إلا أنه ما زال يعاني، وأضاف في إصرار أن العلاقة بين الدولة والفلاح لو وصلت إلى نقطة التراضي فقد لا نحتاج إلى استيراد جزءٍ كبيرٍ من وارداتنا من القمح أو الحبوب الغذائية عموماً، أما الجلسات المخصصة للسياحة ومشكلاتها فحدّث عنها ولا حرج، إن مصر كان يجب أن تكون هي بلد الخمسين مليون سائح في ظروفنا الحالية، ولكن قدرتنا على التسويق وتحفيز القطاع الخاص للشراكة الجادة في التنمية السياحية لم يبلغ مداه الذي كان منتظراً!
ثالثاً: دعنا نعترف أن حشداً كبيراً من العلماء والخبراء قابعون حالياً في جامعاتهم المركزية والإقليمية، فضلاً عن جيوشِ من ذوي الخبرة في تخصصات مختلفة، ولكن يبدو أننا حتى الآن لم نستطع اجتذاب عشرات الألوف من النوعية الجادة التي تعتبر عصب التنمية وعماد التمكين الحقيقي للدولة العصرية التي يسعى الحوار الوطني للتحضير لها والتمهيد لإعلانها في جمهوريةٍ جديدة يلتف المصريون والمصريات حولها بروح المبادرة البناءة والإصرار الوطني العنيد على اقتحام المشكلات وتداول المسائل المعقدة في رحابة صدر وعمق تفكير مع نقل التجارب الناجحة من الدول المختلفة.
رابعاً: إن هناك قضايا جوهرية يجب أن نتوقف عن الالتفاف حولها وأن نسعى إلى اقتحامها، ومن ذلك العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة، وهي بالمناسبة ليست علاقة قاصرة على جماعة الإخوان المسلمين وأخطائها وخطاياها، ولكنها تتجاوز ذلك إلى ضرورة التفاهم مع التيار السلفي لكي يلتزم حدوداً وطنية محددة وألا تصبح بعض عناصره سيوفاً مسلطة على رقاب العباد، بنصوص قانونية هزيلة وتفاسير دينية متهافتة جرى تطويعها لخدمة أهدافٍ دنيوية، حيث تبدو بعيدة كل البعد عن روح الإيمان ومقاصد الشريعة.
خامساً: إنني أدق هنا ناقوس الخطر خصوصاً في أوساط الشباب داعياً إلى أن يتخذوا أعلى درجات الحذر والحيطة من كل ما يجري تصديره فكرياً إلينا تحت مسميات مختلفة، في مقدمتها شعارات حقوق الإنسان التي يحاولون تأويلها وفقاً لأفكارهم وتصديرها للمجتمع العربي واضعين السمّ في العسل بالترويج للمثلية، وغيرها من الظواهر غير المقبولة لدى عموم الناس خصوصاً في الدول الإسلامية والعربية.
هذه سطور أردنا بها أن ندلي بدلوٍ في موضوع شديد الخطورة عظيم الأهمية، وهو فتح الحوار الوطني الحرّ في وجود السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولندرك دائماً أن الفجر يلوح في الأفق رغم المصاعب والتحديات، وإن إصرار المصريين قد صنع عبر تاريخهم الطويل معجزات وحقق إنجازاتٍ؛ بل ومضى نحو انتصارات سوف تظل مشهودة عبر الزمان، إنني أتمنى أن يكون الحوار الوطني القادم حواراً مخلصاً وصادقاً وليس مجرد اجتماعات وخطب ولقاءات ليس بينها ضابط ولا رابط. إن الحوار الوطني القادم فرصة ذهبية للحديث في كل ماهو مسكوت عنه؛ فالشفافية الكاملة هي الطريق الصحيح نحو المستقبل الأفضل. كما أن المواجهة الحاسمة واقتحام المشكلات والتصدي للمعوقات هو السبيل الأوحد لتحقيق الأماني، والإيمان بالله والوطن مع أملٍ لا يتوقف وجهد مستمر لا يتراجع.