ما قبل الحداثة

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

د. حسن مدن

ينشغل عدد ليس قليلاً من المثقفين العرب ليس بالحداثة وحدها، فكراً وسلوكاً، وإنما بما يعدّونه بعدها، أي ما بعد الحداثة. وينم هذا الشغف بما بعد الحداثة بالذات من قبل بعض مثقفينا، في جانب منه على الأقل، عن انفصال عن الواقع الملموس الذي نعيش، وعن التحديات التي يطرحها هذا الواقع لا على صعيد الفكر والثقافة وحدهما، وإنما على صعيد التنمية أيضاً من حيث هي مفهوم اجتماعي – اقتصادي – سياسي - ثقافي متكامل.
لا نكثر على المثقف العربي أن يتابع الجديد في عالم الفكر والمعرفة في العالم، بما في ذلك المدارس التي تدرج في خانة ما بعد الحداثة، ولكن هذه المتابعة إن لم تكن بهدف تمثّل تلك المدارس بعمق ومحاولة الإفادة منها، بشكل خلاق بالضرورة، لا بشكل إسقاطي تعسفي، على واقعنا الملموس، فإنها ستكون محض ترف فكري استعراضي.
مفهوم جداً أن الغرب يطرح على نفسه أسئلة ما بعد الحداثة، لسبب بسيط ومهم، هو أنه أنجز الكثير من أوجه الحداثة، خاصة إذا انطلقنا من الفكرة القائلة إن ما بعد الحداثة تعبير عن مرحلة ما بعد الصناعة في المجتمعات المتقدمة التي فرضت تحديات غير تلك التي كانت قائمة قبل نشوء الحداثة واستوائها، لكن من غير المفهوم أن يُسقط المثقف العربي هذا المفهوم تعسفاً على واقع ما زال في الكثير من أوجهه في مرحلة ما قبل الحداثة، بل ويشهد نكوصاً حتى عن منجزات «حداثوية» عرفتها مراحل سابقة بين نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين.
في بدايات عصر النهضة العربية قال أحد أبرز وأهم روادها، رفاعة رافع الطهطاوي، «إن الوطن إنما يبنى بالحرية والفكر والمصنع»، وإلى هذه المقولة بالذات عاد المفكر محمود أمين العالم ليتساءل: أين نحن اليوم من هذه الشروط الثلاثة؟ فهي لا تزال بتقديره «أبنية هشة، مقهورة لا تُعبر عن كيان متجانس متسق شامل وعميق الجذور».
سيكون تعسفاً نكران مظاهر التحديث المهمة في مجتمعاتنا العربية أو في بعضها، ولكن لا يقل تعسفاً عن ذلك ادعاء أننا أنجزنا الحداثة حتى نلج إلى ما بعدها، والأجدى هو التصدي لمهام ما قبل الحداثة، المعيقة لهذه الحداثة والمعطلة لها.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"