عقيدة البحرية الروسية الجديدة

00:21 صباحا
قراءة 3 دقائق

نبيل سالم

في وقت تعيش فيه العلاقات الروسية الأمريكية أسوأ حالاتها منذ انتهاء الحرب الباردة مع انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. وقَّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أواخر الشهر الماضي على مرسومين حول إقرار العقيدة البحرية الروسية وميثاق الأسطول العسكري الروسي.

ومن يتمعن في النقاط الأبرز التي حملها هذا التغيير في العقيدة البحرية الروسية، يستطيع أن يلمس مدى البون الشاسع الذي بات يفصل بين موسكو والغرب عامة والولايات المتحدة الأمريكية خاصة.

فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد حلف وارسو بعد عام 1991، تغيرت العلاقات بين حلف شمال الأطلسي (الناتو) وروسيا، من حالة المجابهة والتحدي إلى نوع من الشراكة، ولا سيما في أعقاب انضمام روسيا في عام 1994 إلى برنامج الشراكة من أجل السلام، ووقَّع حلف شمال الأطلسي وروسيا منذ ذلك الحين عدة اتفاقيات مهمة فيما يخص التعاون بين الطرفين.

لكن ما يمكن تسميته بشهر العسل بين الطرفين، لم يدم طويلاً، بعد أن حنث حلف الناتو بوعود قدمها لروسيا تقضي بعدم التمدد شرقاً، حيث اقتربت حدود الحلف كثيراً من حدود الاتحاد الروسي في عام 1999 نتيجة انضمام التشيك والمجر وبولندا. وبعدها بخمسة أعوام تبعتها الجمهوريات السوفييتية السابقة ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا إضافة إلى سلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا.

ورغم هذا التمدد الأطلسي، حافظت روسيا على رغبتها في الشراكة مع «الناتو»، ففي عام 2010، اتفق قادة الحلف بقمة في لشبونة على وثيقة رئيسية تحدد رؤية الحلف، اعتبرت بموجبها روسيا «شريكاً استراتيجياً» في خطوة تهدف لبناء شراكة طويلة الأمد، إلا أن التمدد الأطلسي أو مخططات الغرب العدائية تجاه روسيا لم تتوقف، ولاسيما مع مساعي أوكرانيا للانضمام إلى الناتو، الأمر الذي يعتبر خطاً أحمر لا يمكن لروسيا تجاهله، وكانت العلاقات بين دول حلف الناتو وروسيا قد وصلت إلى طريق شبه مسدود في عام 2014 عندما سيطرت موسكو على شبه جزيرة القرم، حيث قررت الدول الأعضاء في الحلف بالإجماع تعليق التعاون في المجالين المدني والعسكري مع روسيا، ما دفع بعلاقات الطرفين نحو الهاوية مع اندلاع شرارة الحرب الأوكرانية التي لاتزال نيرانها مشتعلة وتنذر باحتمال توسعها أيضاً.

هذه التطورات الكبيرة أجبرت روسيا على إعادة التفكير ليس في علاقاتها مع الغرب وحسب وإنما في تغيير عقيدتها البحرية العسكرية، بعد أن اعتبر «الناتو» أن روسيا تمثل التهديد الأهم والمباشر لأمن الحلفاء والسلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية. ما يعني تغييراً كبيراً في قواعد اللعبة بين الغرب وموسكو.

وبالعودة إلى العقيدة العسكرية البحرية الجديدة لروسيا، نلاحظ أن هذه العقيدة تضمن مجموعة نقاط تمثل تحولاً كبيراً في السياسة الروسية تجاه الغرب عامة وواشنطن بشكل خاص، ومن هذه النقاط، اعتبار نهج الولايات المتحدة نحو الهيمنة في المحيطات العالمية بمثابة تحد رئيسي للأمن القومي لروسيا الاتحادية، والسعي لتعزيز القدرات البحرية الروسية على اعتبار أن عدم وجود عدد كاف من القواعد ونقاط التمركز خارج حدود روسيا الاتحادية المخصصة لتموين السفن التابعة للقوات البحرية الروسية، يعتبر نقطة خطرة، إضافة إلى تأكيد أن مضائق الكوريل والبلطيق والبحر الأسود والجزء الشرقي من البحر الأبيض المتوسط ​​مهمة لضمان الأمن القومي لروسيا، والعمل على تطوير مرافق الإنتاج لبناء سفن حاملة للطائرات حديثة للقوات البحرية.

ويتضح مما أعلنته موسكو حول العقيدة العسكرية البحرية أنها تتقارب إلى حد ما مع المذهب العسكري في حقبة الاتحاد السوفييتي السابق ومرتكزاته الاستراتيجية، رغم أنها تمثل المعطيات الأساسية لمذهب روسيا العسكري في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، حيث أجبر الغرب روسيا على تطويره ونقله من فكرة السعي للشراكة مع الغرب، إلى خانة التصدي للهيمنة الغربية بزعامة الولايات المتحدة على العالم.

كما أن المذهب العسكري الروسي الجديد الذي يركز على اعتماد استراتيجية الإعداد لحروب إقليمية، خلافاً لما كان في حقبة الاتحاد السوفييتي، حيث كان الإعداد العسكري يتم لمواجهة حروب كونية، رغم أنه لم يُسقط مسألة الحرب النووية، بل أبقى على المنظور السوفييتي لها باعتبارها قد تكون امتداداً للحروب التقليدية، وهو ما بدا واضحاً في استنفار روسيا لقوات الردع النووي، خلال الأزمة الأوكرانية التي لاتزال مشتعلة، كساحة نزال رئيسية بين موسكو والغرب.

أخيراً يمكن القول إن العقيدة البحرية العسكرية لموسكو، لا تعني أن العالم سيغرق غداً في أتون حرب عالمية ثالثة، لأن كلفة مثل هذه الحرب ستكون كارثية على الجميع، لكنها تعني أن زمن الانفراد الأمريكي بالهيمنة سينتهي أو سيتقلص كثيراً، وأن ما قبل الأزمة الأوكرانية لن يكون كما بعدها أبداً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"