عادي

مناطق سردية لا تعنينا

23:43 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

لأسباب عدّة ومتداخلة، تندر الرواية البوليسية في المكتبة العربية، وعلى الرغم من الشهرة العالمية لهذا النوع الأدبي، ورواجه الطاغي، فإن الحضور العربي في هذا المضمار لا يزال خجولاً، ولا تزال الكتابات فيه «متواضعة»، ناهيك عن النظرة المتدنية من قبل النقاد والأكاديميين لأدب الجريمة والجاسوسية على اتساع الرؤية.

الرواج الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة هو الذي جعل من البريطانية أجاثا كريستي تُعرف ب«ملكة رواية الجريمة»، وتدفع باسمها إلى مقدمة الروائيين العالمين، ويباع من نسخها نحو مليار نسخة بعد ترجمتها لنحو مئة لغة.

الحُكم الذي تتضمنته المقدمة، يتطلب منّا أولاً التعريج على تعريف واضح للرواية البوليسية، التي تعدُّ فرعاً من فروع روايات الجريمة وقصص الغموض التي يحقق فيها محقق، سواء كان محترفاً أو من الهواة أو متقاعداً، في جريمة، في الأغلب تكون جريمة قتل.

وعلى قدر تنوع التعريفات في المصادر الغربية، فإن أغلبها يتفق على أن الوراية البوليسية بدأت في منتصف القرن التاسع عشر، أي التوقيت الذي بدأت فيه الرواية بمفهومها العام في الانتشار والتكريس لمسارها.

مع الوقت، امتدت شعبية الرواية البوليسية، ويعد إدجار آلان بو مؤسسها من خلال نصه «جرائم سارع مورج» الذي نشره في عام 1841، قبل أن يكتب نص «لغز ماري روجيه»، ليأتي من بعده البريطاني تشارلز ديكنز بروايته «البيت الكئيب»، ومع وجود الكثير من الأسماء اللامعة فإن لأجاثا كريستي مكانة خاصة في رف المكتبة العالمية الخاصة بأدب الجريمة.

واتسعت دائرة الاهتمام بالأدب البوليسي، حتّى أصبحت المخيلة الإنسانية تعج بالشخصيات الخيالية البوليسية، التي يمكن أن نشير إليها بوصفها رموزاً مستقلة، ولعبت دوراً في إثراء الخيال البشري على تنوع ثقافاته، مثل أوجست دوبين، وشيرلوك هولمز، وهيركيول بوارو.

تأصيل تاريخي

ومع الاتفاق على منتصف القرن التاسع عشر كنقطة بزوغ لأدب الجريمة، فإن عدداً من الباحثين حاولوا التأصيل للظاهرة تاريخياً، سواء في النصوص الأدبية أو غيرها، ويأتي في مقدمتهم الناقد آر. ه. فايفر مؤلف كتاب «درب المحارب.. حكاية أمل»، الذي رأى أن بعض النصوص القديمة والدينية تتشابه مع ما سيُطلق عليه لاحقاً الخيال البوليسي.

في مسرحية «أوديب ملكاً» للكاتب المسرحي اليوناني سوفوكليس، يحقق البطل في جريمة قتل الملك لايوس التي لم تكتشف حقيقتها، وعقب استجواب عدد من الشهود يتضح أن أوديب هو الجاني. وعلى الرغم من أن استقصاء أوديب يستند إلى أساليب خارقة للطبيعة، فإن النص المسرحي يشتمل على جميع الخصائص المركزية والعناصر الشكلية للمحقق، بما في ذلك لغز يحيط بجريمة قتل، ودائرة مغلقة من المشتبه فيهم، والكشف التدريجي عن ماضٍ خفي.

يمكن أن نعد بعض الكتابات السردية ضمن إطار الكتابة الني تبحث عن حل لغز، أو التحقيق في جريمة، ولعلّنا نذكر هنا ألف ليلة وليلة، والمعروفة غربياً ب«الليالي العربية»، التي تتضمن ما يعده النقاد أقدم القصص البوليسية العربية، والمتوافقة مع الخيال البوليسي بمفهومه الحديث.

وأقدم مثال معروف لقصة بوليسية كانت «الثلاث تفاحات»، وهي إحدى حكايات شهرزاد في «ألف ليلة وليلة». وفيها يكتشف صياد صندوقاً ثقيلاً مغلقاً على طول نهر دجلة، يبيعه إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد. وعندما يفتح الخليفة الصندوق، ويكتشف جثة امرأة شابة مقطّعة إلى أشلاء. ثم يأمر هارون وزيره جعفر بن يحيى بحل الجريمة، والعثور على القاتل في غضون ثلاثة أيام، أو إعدامه إذا فشل في مهمته.

خلال السرد يُبنى التشويق من خلال تقلبات الحبكة المتعددة التي تحدث مع تقدم القصة. مع هذه الخصائص، يمكن اعتبار النص نموذجاً أصلياً للقصّ البوليسي. ويتوقع استخدام التسلسل الزمني العكسي في الخيال البوليسي الحديث؛ إذ تبدأ القصة بجريمة قبل تقديم إعادة بناء تدريجي للماضي.

والفرق الرئيسي بين ابن يحيى في «الثلاث تفاحات» والمحققين الخياليين اللاحقين، مثل شيرلوك هولمز وهيركيول بوارو، هو أن الأول ليس لديه رغبة فعلية في حل القضية. ويجري حل لغز الجاني عندما اعترف القاتل نفسه بجريمته. وهذا بدوره يؤدي إلى تكليف آخر، ويتعين على الوزير العثور على الجاني الذي حرض على القتل في غضون ثلاثة أيام وإلا سيعدم.

فشل ابن يحيى مرة أخرى في العثور على الجاني قبل الموعد النهائي، لكن بسبب الصدفة، اكتشف عنصراً رئيسياً. في النهاية، تمكن من حل القضية.

من ناحية أخرى، تحتوي قصتان أخريان من قصص «الليالي العربية»، وهما «التاجر واللص» و«علي بابا»، على اثنين من أوائل المحققين الخياليين، اللذين يكشفان عن أدلة ويقدمان أدلة للقبض على مجرم معروف للجمهور أو إدانته، ومع القصة تتكشف في التسلسل الزمني العادي والمجرم المعروف بالفعل للمتلقي.

نظرة دونية

يقول الروائي السوداني أمير تاج السر في مقالة له عن «الأدب البوليسي»: إن جنس الرواية البوليسية لن يكون من بين أجناس الكتابة العربية الشائعة في أي يوم من الأيام، وأي محاولة لكتابة رواية بوليسية بالأدوات الفقيرة، والمخيلة غير المعدة جيداً، ستكون ضرباً من المغامرة التي تبعد القارئ عن القراءة العربية، أكثر مما تقربه إليها.

والسؤال المُلح هنا: لماذا تغيب الرواية البوليسية عن الأدب العربي؟ كما قلنا في البداية، تتداخل العوامل والأسباب، بيّد أن واحداً من الأسباب الرئيسية هو النظرة النقدية الدونية لأدب الجريمة على نحو عام.

ونقصد بالنظرة الدونية أي الرؤية الهامشية لكتابات الجريمة، بوصفها أدباً للناشئة، لا تليق قراءته سوى بالمراهقين والبالغين، وهي رؤية ترى في أدب المراهقين «درجة ثانية»؛ إذ لا تزال الأكاديميات العربية تعد أي أدب لغير الراشدين نوعاً غير جاد، وكتابة استهلاكية لا ترقى إلى مستوى الدرس المنهجي والالتفات النقدي الرصين.

غياب المافيا

الأقانيم الأكاديمية السابقة ليست وحدها السبب وراء تراجع أدب الجريمة عربياً؛ إذ يتقاطع معها السياق الاجتماعي العربي، الذي تغيب عنه الجريمة «المافيوية»، تلك المنسوبة للمافيا، وإن لم تغب عن بعض البلدان العربية الجريمة المنظمة، لكنّ الفارق بين الأمرين، واضح.

هنا، يفضل الكاتب العربي في عمومه، أن يكتب عن الهموم التي تشغل بال القرّاء الذين يتوجه إليهم، لا عن الذي يشبع ذائقتهم أو أن يسد جوعهم إلى التشويق والتسلسل الدرامي الهرمي، واللهث وراء الأحداث الغامضة، وبناء الشخوص التي تبحث عن إجابة عن اللغز.

بالتالي فضّل الكثيرون الرواية التأملية، التي تعالج إشكالية ظنّ مؤلفوها أن تخص العالم العربي على نحو أوضح، وتقديم شخصيات تشبه بعض القراء وتتقاطع معهم، أو على الأقل يشعرون أنهم يعرفونها. وربما استعاض الروائيون عن أدب الجريمة برواية الديستوبيا، أي أدب المدينة الفاسدة والواقع المرير.

محاولات شابة

على نقيض ما سبق، حمل بعض الكتّاب العرب الجدد على كاهلهم تقديم رواية بوليسية عربية، من بينهم المصريان رائد يونس وعمرو الجندي والفلسطيني محمد هاني أبو زياد، والجزائرية أمل بوشارب، الذين قدموا نماذج روائية جيدة، ومحاولات فنية تعمل على تقديم رؤية خاصة، انطلاقاً من بيئاتهم الثقافية.

مكانة خاصة

الخوف من الخسارة تدفع دور النشر إلى تفضيل الرواية البوليسية المترجمة على نظيرتها العربية؛ إذ يضمن أدب الجريمة الغربي مكانة خاصة عند القارئ، تجعل الأخير يبحث عنه بين أرفف المكتبات والنبش عنه في المتاجر، والسؤال الدائم والمكرر عنه في معارض الكتاب.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"