كنائس

00:12 صباحا
قراءة دقيقتين

جاءت طفولتي الأولى في حي هادئ في مدينة مأدبا الأردنية كانت تقع فيه كنيسة مهيبة سقفها من القرميد الأحمر، وتعلوه أجراس تُقرع من حين إلى آخر فوق مبنى حجري جميل سأعرف في ما بعد أنه شكل من أشكال العمارة الدينية الخاصة بإخوتنا المسيحيين، لكن أجمل ما كان في الكنيسة، نوافذها وبواباتها وساحاتها النظيفة. وكان الرهبان يسمحون لنا نحن أبناء المسلمين باللعب مع الأطفال المسيحيين في باحة الكنيسة التي كانت تبدو لنا داراً رائعة الهدوء والجمال بحجارة جدرانها، وقرميدها الوردي الهادئ.
ارتبطت الكنائس في أذهان أولئك الأطفال المسلمين والمسيحيين الذين أصبحوا كهولاً في الستين من أعمارهم، بجمال المبنى والمعمار، وبالطبع، فإن الامتياز المعماري للكنيسة على هذا النحو النظيف والجميل، إنما وراءه  كما هو معروف  الامتياز الديني لمبنى العبادة هذا في أي مكان. ومن تلك الأيام الطفولية بالنسبة لي، على الأقل، كانت الكنائس مبنية بطرق خاصة بمعمار قوي، كأن الكنيسة في حد ذاتها عمل فني معماري نحتي يليق بالتعبّد، وينشر في الوقت نفسه، مهابة إيمانية وجمالية في الروح والنفس والذاكرة.
رأيت كنائس كثيرة في العالم، وبالطبع من المهم، في هذه الحالة، التركيز البصري على الناحية الجمالية والمعمارية لبيوت العبادة هذه، بصرف النظر عما إذا كانت كنائس كاثوليكية، أو بروتستانتية، أو كنائس أقباط أو غير كل هذه الانتماءات الدينية المسيحية. فالكنيسة في حد ذاتها حين يتفنّن المهندس المعماري في بنائها تتحول  كما يقولون دائماً  إلى تحفة فنية، وكذلك كثير من المساجد هي بالفعل أعمال معمارية وتُحف فنية ملهمة.
لا حاجة لي للقول كيف كانت كاتدرائية «نوتردام» تتماهى في مهابتها المعمارية الجمالية مع العظمة الإنسانية في رواية «أحدب نوتردام» للكاتب فيكتور هيجو، وليست تلك الكاتدرائية التاريخية هي الوحيدة التي جرى توظيف مهابتها المعمارية الجمالية في الأدب، فكثير من الكنائس والكاتدرائيات الفخمة البنيان، رأيناها في أعمال سينمائية وتشكيلية عظيمة بإبداع إنساني كوني هو في حقيقته وثيقة ثقافية تؤكد عبقرية الفن، سواء جرى توظيفه لإنجاز دار عبادة، أو دار أوبرا.
الفاتيكان نفسها دولة معمارية كبرى مؤثثة بأغلى وأرفع الأعمال الفنية في تاريخ الرسم في العالم، وعلى مدار تاريخ هذه الدولة الدينية الوحيدة في العالم، كان يجري ترميم وصيانة حيطان وساحات ومرافق هذا الكيان الديني الكبير في معناه، وفي رمزيته الوجودية والتاريخية.
ترميم وصيانة دور العبادة، هو أيضاً نوع من الفن، وشكل من أشكال إعادة الروح للحجر، وللإنسان أيضاً. ‫
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"