العربية بعد نصف قرن

00:14 صباحا
قراءة دقيقتين

ما رأيك في أن نستعيد موضوع العمود أمس، ونضيف إليه مشكلة أخرى؟ السؤال أمس: كيف ستتلقى الأجيال القادمة تراث الأدب، إذا تسلمته أكواماً بالجملة، من دون غربلة؟ إذا حدث ذلك فالأمور بخير، الخشية هي أن يُعرضوا عن الميراث الأدبي القديم جملة وتفصيلاً.
لنكن صرحاء، هل لك أن تتصور ابن عشرين سنة 2070، هائماً بمعلقة لبيد: «فصوائقٌ إن أيمنت فمظِنّةٌ.. فيها وِحاف القهر أو طِلخامها». أما «رسالة الغفران»، وهي قمة الأدب العربي في جميع عصوره، فهل في كل عشرة ملايين من العرب اليوم، واحد يستطيع قراءة صفحة واحدة منها بغير معاجم؟ كل ذلك ليس سوى نصف المشكلة. اكتفى القلم بإشارة خاطفة إلى أن ما هو اليوم قضية ثقافية استشرافية، سيصير بعد عقود حزمة مشكلات نفسية، اجتماعية وسياسية أيضاً.
يجب عدم التقليل من أهمية القاعدة الثقافية في بناء الشخصية الفردية والعامة. الإنسان ليس روبوتاً. الإنسان الآلي يؤدي وظائفه على أحسن ما يرام، من دون هموم عاطفية، فكرية، نفسية، روحية. الآلة الذكية يبرمجونها، تتلقى التعليم المعمّق بالبرمجة والخوارزميات، تتدرج في التعلم وتضطلع بما عليها أداؤه، بأفضل مما يقوم به البشر. لكن الإنسان غير ذلك، هو ينمو ويتعلم ويعمل ويبتكر ويبدع، بمقدراته الذهنية ومواهبه، ولكن أيضاً بعواطفه وانفعالاته، بخياله وهواجسه ولاوعيه وأحلام يقظته. لكل تلك الدوائر الحيوية الحياتية الوجودية، آثار في سلوكه وردود أفعاله. الآلة لا يهمها ما هي جذورها وأصولها، لا تغضّ الطرف لأنها من نمير، ولا تشعر بالفخر لأنها من كعب أو كلاب.
نصف المشكلة الآخر، هو أن العربية التي ستكون رائجة بعد خمسين سنة، ستزداد بعداً من اللغة التي كتبت بها الآداب العربية عبر القرون الماضية. ثمة مفارقة عجيبة على مجامع اللغة العربية أوّلاً، والمناهج العربية ثانياً، وأهل الأدب والثقافة عموماً، إدراك أبعادها المتناقضة وآثارها، إذ على الذين يستهينون بها أن يتخيلوا العجب العجاب: إذا لم يبعث الله من ييسّر تبسيط قواعد العربية، فإن الأجيال القريبة، بعد نصف قرن فقط، ستنفر من أساليب تعلّم العربية، بالتالي ستتسع الهوة بينهم وبين التراث الأدبي. أمّا إذا حدثت معجزة تبسيط القواعد، فسيغدو تعلم العربية سهلاً، ولكن ستتسع الهاوية بين الأجيال وبين الأدب القديم.
لزوم ما يلزم: النتيجة المطبخية: يقول المثل «من هنا حامية ومن هنا تُحرق».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"