أحمد مصطفى
تعني الحكمة التقليدية اقتصادياً أنك إذا أردت نجاحاً لمشروع أن تبدأ به في وقت التراجع الاقتصادي، حتى إذا بدأ التحسن في الأوضاع، فإنك بالفعل ستكون موجوداً، للاستفادة بقوة. أما الانتظار حتى تتحسن الأوضاع لتبدأ، فسيجعلك في حلبة منافسة مع كثيرين يبدأون، ويكون نصيبك من النجاح والربح أقل.
ربما يمكن سحب تلك القاعدة الاقتصادية على كثير من نواحي حياة الإنسان، فأحياناً يكون توقيت خيارات المرء هو العامل الحاسم في تقرير نتيجة اختياره. صحيح أن العالم يمر الآن بظروف اقتصادية صعبة، من تبعات أزمة وباء «كورونا» ثم الحرب في أوكرانيا، والتوتر بين أمريكا والصين بسبب تايوان، لكن تلك الظروف الصعبة، التي تدفع بالاقتصاد العالمي نحو الركود، لن تدوم حتى لو كان الركود عميقاً. وبالتالي فالذكي من يبدأ مشروعه الآن، على الرغم مما سيكلفه ذلك، لأنه ما إن تبدأ الدورة الاقتصادية في العودة للنمو حتى يكون هو من أكثر المستفيدين من ذلك النمو من بدايته، وأكبر استفادة مع زيادة قوة النمو.
وإذا كان العالم قد وصل إلى مرحلة متقدمة من البحث عن نظام جديد للعلاقات الدولية، بدأت إرهاصاته منذ نهاية الحرب الباردة في آخرعقد الثمانينات من القرن الماضي، فإن هذا الوضع المضطرب حالياً، يمثل فرصة لكل من يفكر في مستقبل أفضل. إنه الوقت المناسب لتعزيز الدور الإقليمي والدولي للقوى الصاعدة في أطراف العالم، بالطبع إذا كانت تستند إلى بناء قدرات على مدى سنوات.
من المهم أيضاً لأي طرف جديد يسعى إلى تعزيز مكانته الإقليمية والدولية أن يقرأ بدقة الوضع الحالي، واحتمالات ما يمكن أن تؤول إليه الأمور مستقبلاً. بالضبط كما يفعل المستثمر اقتصادياً بما يُسمى «دراسة الجدوى لمشروعه» أو تحليل توقعات السوق لاستثماراته. فهناك مستثمرون كبار راكموا الثروات من شراء أسهم الشركات المتدهورة، وبشرائهم الهائل رفعوا قيمة الأسهم، وأسهموا في توفير رأس المال لتلك الشركات، لتعاود النشاط وتتوسع، ما أدى إلى عائدات هائلة، وأرباح لهؤلاء المستثمرين الذين قد يصفهم البعض ب«المغامرين».
ليس المقصود هنا هو المضاربات قصيرة النظر في المستقبل، التي تعتمد على الربح السريع، وإنما التخطيط للاستثمار طويل الأمد في الاقتصاد والسياسة وغيرهما. وللتأكيد، لا يمكن لذلك أن يبدأ من فراغ، فمن استثمر سابقاً في ثروته البشرية بالتعليم والصحة وإتاحة الفرص للابتكار والإبداع سيكون الأكثر قدرة على الاستفادة من أوقات التراجع، لبدء مشروعه.
تبدو الحرب في أوكرانيا، وهي في شهرها السادس، حرباً ممتدة أكثر من توقعات حتى من بدأوها، ومن حاولوا إطالة أمدها، لإضعاف الطرف الآخر. كان التحليل السائد في البداية أن أمريكا والغرب يريدان إطالة أمد الحرب، ليس فقط لحرمان روسيا من نصر خاطف يغير الأوضاع لمصلحتها في أوكرانيا، ولكن لإضعاف القيادة الروسية، وربما إثارة القلائل في موسكو مع حصارها اقتصادياً بالعقوبات. لكن ذلك لم يؤتِ ثماره كما كان مأمولاً.
ربما كانت روسيا تسعى في البداية إلى «عملية خاصة» تحقق النتائج التي ترجوها بسرعة، لكن مع طول أمد الحرب، وحصار العقوبات الاقتصادية عليها، بدأت ترى أن في إطالة أمد الحرب ربما فائدة أيضاً على عكس أهداف أمريكا والغرب. فالعقوبات على روسيا تضر باقتصادات من يفرضوها أكثر من تأثيرها داخل روسيا. وربما تفكر القيادة الروسية أن استمرار وتصاعد تأثير العقوبات على الدول الغربية، خاصة في أوروبا، قد يؤدي إلى خلافات بين الحلفاء – وتحديداً بين أوروبا وأمريكا. وتلك مصلحة بعيدة المدى لموسكو.
أما السيناريو مع الصين فأكثر تعقيداً، ففرض الغرب لمزيد من العقوبات على ثاني أكبر اقتصاد في العالم، سيؤدي إلى أضرار تتجاوز الأطراف المتصارعة، وتطال كل الاقتصادات الصاعدة والنامية في العالم؛ ذلك بسبب التشابك الهائل الذي عقّدته العولمة الاقتصادية في العقود الأربعة الأخيرة؛ لذلك ظهر منذ البداية خلاف بين أوروبا وأمريكا بشأن التعامل مع الصين، خاصة اقتصادياً، حتى إنك تسمع بعض الأوروبيين يقولونها صراحة بشأن مشكلة تايوان «هذه حرب الأمريكان وليست حربنا».
ربما يكون التفكير السريع أن هناك فوائد اقتصادية من هذا الاضطراب والصراع الاقتصادي بين القوى الكبرى. لكن التفكير الاستراتيجي الأعمق يعني أن تبدأ من اللحظة في اقتناص الفرصة، لتعزيز مكانتك سياسياً وحتى ثقافياً أبعد من حدودك إن كنت ترغب في دور أكبر. فقط، يحتاج الأمر إلى أن توظف نتيجة استثماراتك السابقة في قدراتك من أجل التوصيف الصحيح للوضع، وتوقعات المستقبل حتى تكون خياراتك سليمة نحو مستقبل أفضل.