الحوار الوطني والمسكوت عنه

00:16 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي

أريد أن أتناول هنا في هذا المقال الحوار الوطني والمسكوت عنه، قضية منهجية لا أظنها غائبة عن أذهان القائمين على هذا الإجراء الوطني شديد الأهمية بالغ الحساسية، فالحوار يفتح عدداً من القضايا المطروحة على الساحة الوطنية والقومية والدولية بدون استثناء أو استبعاد، ويكون على من يديرونه أن يلتزموا الشفافية الكاملة وأن ينتبهوا إلى أن فتح ملفات المشكلات يكون كفتح الأورام والجروح، إذ لا بد من الانتهاء من كلٍ منها والوصول إلى صيغة توافقية لحلها لأن مجرد فتحها يبدو كإعادة تفنيط (الكوتشينة) والتمهيد لاستمرار اللعبة السياسية على مسرح الأحداث. إنني أقول صراحة إن الحوار نعمة نعتز بها وفضيلة نحرص عليها، ولكنه يمكن أن يتحول إلى كابوس إذا لم نتمكن من تقديم الحلول المخلصة والنظيفة والشريفة، وحينما لا نفعل ذلك فإننا سنكون كمن فتح جرحاً ولم يقم بتنظيفه وتعقيمه وعلاجه، لأنه في هذه الحالة سوف يظل ينزف دون توقف وربما تسوء الحالة كثيراً عما كانت عليه قبل فتحه.

فالسادة المتحاورون والمتحاورات يتعيّن عليهم أن يجعلوا باب الحوار مفتوحاً أمام كل القضايا، ويعلموا أن إغلاق كل ملف يقتضي الوصول إلى خطة عمل واضحة مدروسة مرتبطة ببرنامج زمني محدد خصوصاً، وأن رئيس الدولة يعتمد هذا النوع من التفكير الذي لا يسمح بتأجيل الحلول أو إرجاء التعامل مع مشكلةٍ تتصف بالعمومية وترتبط بالمصلحة العليا للوطن، ولنعلم أن (الباب الموارب) هو أخطر أنواع الفتح؛ لأنه نصف حل فلا ترك الفتنة نائمة «لعن الله من أيقظها»، ولا هو تصدى لها بجسارة وشجاعة كي ينزع عنها غطاء الإهمال والتجاهل ويضعها في قلب اهتمامات الشأن العام، فاتحاً الباب على مصراعيه لكافة الحلول والاقتراحات والتوصيات حول كل مشكلة، وإكبار توصياتٍ واقعية قابلة للأخذ بها وتنفيذها في حيز زمني محدد، شريطة أن يكون هناك توافق عام حولها ورضا كامل للوصول إليها، ونحذر بهذه المناسبة من المخاطر المحتملة التي نجمت في مراحل معينة من تاريخنا القريب، عندما كانت المشكلات المسكوت عنها والأزمات المستترة مستبعدة، تتوارى بفعل الزمن لكي تستفحل وتتضخم وتصبح عصيّة على الحلول المتاحة.

إن الحوار هو عملية (نكشٍ) شاملة إذا جاز التعبير، فعلى الذين يتصدون له أن يدركوا جيداً أننا أمام عملية جادة وخطيرة وليست ترفاً مرحلياً أو لعبة سياسية لمرحلة معينة، وليدرك معي القائمون على هذا الشأن أن الرجل الأول في الدولة المصرية حالياً ضحى مرحلياً ببعضٍ من شعبيته إيثاراً للمصلحة العامة وتفضيلاً لها على صالحه الشخصي. وما أكثر الحكام الذين يؤثرون شعبيتهم الظاهرية ويبتعدون عن الولوج إلى جوهر المشكلات والأزمات معتمدين على منهجٍ ديماغوجي يدغدغ مشاعر الجماهير ولا يبغي الوصول إلى حلولٍ جادة ترفع المعاناة عن ملايين البشر، وتسمح للأسر الفقيرة بأن تتنسم هواء الأمل لمستقبل أفضل وحياة أكثر استقراراً وقرباً لحقوق الإنسان في عصرنا الحافل بالتناقضات.

وبالمناسبة فإن المواطن العادي وهو يحاول متابعة التطورات العامة، يدرك بحسه الفطري أن الحوار يفتح الأبواب لحل بعض المشاكل حتى وإن لم يفصح بذلك، إذ لا توجد عصا سحرية يشير بها ولي الأمر فتستجيب كل قطاعات الدولة، متناسين أن الفساد والإهمال يعششان في بعض زوايا الإدارة. وهنا أطرح ملاحظتين أرى أن لهما قدراً كبيراً من الأهمية:

الأولى: إن الحوار الوطني الحالي هو فرصة لمناقشات غير تقليدية تعتمد على حلول جديدة للمشكلات المستعصية ولا تقف عند حد الرصد والتوصيف فحسب، بل لابد من رؤية شاملة بعيدة النظر تضع عامل الزمن في مقدمة حساباتها، فالوقت سلعة لا تباع ولا تشترى ولا تدخر واللحظة الآنيّة هي مفتاح المستقبل، وإذا كان اليوم قد جاء من رحم الأمس فإن الغد بالضرورة هو وليد اليوم.

الثانية: واهمٌ من يتصور أن الحوار الحالي هو مرحلة عابرة ينتهي تأثيره بانتهائها، لأن هذا النوع من التفكير سطحي لا يمتّ بصلة إلى فكر الدولة المصرية حالياً رئيساً وحكومة، فالحلول جذرية والجهود ضخمة وضمير الوطن يصحو يوماً بعد يوم، وحرّاسه يستيقظون ساعة بعد ساعة نتيجة تلك الطرقات القوية للتطورات الدولية والتحولات الإقليمية المحيطة، والتي تعتبر نذيراً عالي الصوت يسمعه من به صمم! أن أفيقوا فالوطن المصري في مرحلة تشييد وبناء تتواصل مع أكثر من اثنين مليون طفل وافد جديد سنوياً.

بقيت كلمة أخيرة أهمس بها وسط دوائر الحوار القائم، مؤداها أن فقه الأولويات يمثل الفلسفة التي يستند إليها هذا الحوار والنهج الذي تمضي عليه اختياراته، ونتذكر المثل الإنجليزي الشهير الذي يقول (أن يأتي الأمر متأخراً خير من ألا يأتي أبداً).

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3jer63rc

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"