أوروبا ومصيدة صراعات أمريكا

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

الحسين الزاوي

تعيش أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على وقع صراعات متواصلة لا تكاد تخبو حتى تتأجج مرة أخرى، بين القوى الكبرى الطامحة إلى الهيمنة على العالم، ويبدو أن هذه القوى وفي طليعتها الولايات المتحدة الأمريكية، قد اختارت القارة العجوز لتكون مسرحاً لحسم سباق الزعامة على المستوى الدولي خلال العقدين المقبلين؛ إذ إنه بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي وتفكك حلف وارسو، راهنت واشنطن على محاصرة روسيا شرقاً، من خلال إعادة بناء حلف «الناتو»، وتقديم صياغة جديدة لعقيدته العسكرية من أجل فرض وصاية دائمة على أوروبا، وربطها بحبل سري مع واشنطن، يضمن هيمنتها المتواصلة على العالم الغربي بمختلف مكوناته، لذلك فقد كان الرئيس الأمريكي جو بايدن، فرحاً ومزهوّاً مؤخراً، وهو يصدّق على قرار انضمام السويد وفنلندا، آخر قلعتين للحياد في أوروبا، إلى حلف «الناتو».

وبالتالي فإنه بعد أشهر قليلة من انخراط أوروبا في صراع جديد، مكلف اقتصادياً وأمنياً، مع روسيا، وجدت دول القارة نفسها مجبرة مرة أخرى على تحمّل تبعات مواجهة أخرى بين الصين والولايات المتحدة، بعد تصاعد التوتر بينهما بشأن تايوان، وذلك بعد فترة قصيرة من تأكيد حلف «الناتو» في قمة مدريد، أن الصين تشكل تحدياً خطراً للاستقرار في العالم، لتجد القارة نفسها منغمسة في مواجهة لا تعنيها، تتعلق بالمنافسة على قيادة العالم بين الولايات المتحدة والصين، وذلك على الرغم من حرص قادة الدول الأوروبية خلال السنوات الماضية، على مقاومة ضغوط واشنطن الهادفة إلى إقحامهم في صراع ليست له صلة مباشرة بالأمن الأوروبي.

وتجد أوروبا نفسها الآن، مضطرة إلى النظر إلى العالم بكل تعقيداته بمنظار المصلحة الأمريكية؛ الأمر الذي يفقدها الكثير من عناصر قوتها الاقتصادية والسياسية والثقافية، ويجعل معظم دول العالم تشعر بأنها غير قادرة على التعامل مع الدول الأوروبية ككيانات مستقلة؛ لأن هذه الأخيرة مجبرة على محاصرة ومعاداة من تعاديهم أمريكا، وعلى مصادقة من تصادقهم وتتحالف معهم واشنطن، وقد قادتها هذه الوضعية من التبعية إلى الخضوع بشكل يكاد يكون كلياً لإملاءات واشنطن في ما يتعلق بنظام العقوبات على روسيا، الذي باتت آثاره ترتد على أوروبا بسبب شح إمدادات الطاقة، وهي وضعية محزنة تجعل العواصم الأوروبية مرغمة على المبيت في الظلام، للمحافظة على ما تبقى لديها من مخزونات الطاقة.

وإذا كانت تبعية أغلبية دول شرق وشمال أوروبا لا تطرح أي مشكلة بالنسبة لشعوب هذه الدول المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالمنظومة الأنجلو أمريكية، فإن شعوب غرب أوروبا لا سيما في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، ترفض سياسة الخنوع والتبعية لواشنطن، وترى أن هذا التحالف القسري لا يخدم مصالحها القومية.

ويشير المراقبون في هذا السياق إلى أن الأزمات الاقتصادية في هذه الدول، لا سيما في إيطاليا، من شأنها أن تقود إلى فوز أحزاب أقصى اليمين التي ترفض سياسات بروكسل وإملاءات واشنطن، بشأن العقوبات على روسيا، وخيارات المواجهة مع الصين؛ لأنها لا تخدم المصالح القومية للشعب الإيطالي الذي يشعر بالإهانة نتيجة التبعية المفروضة عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

ويمكن القول إن الأغلبية الساحقة من النخب الأوروبية ترفض سياسة واشنطن القائمة على الإمعان في إغراق السمكة في الماء، من خلال الترويج للرواية التي تؤكد أن أفول القوة الأمريكية يعني بالضرورة انحسار وتراجع قوة أوروبا برمتها. وتعتقد هذه النخب أن تبعية دولها لواشنطن، تمثل إساءة بالغة لميراث الحضارة الأوروبية.

وعليه، فإن بقاء أوروبا رهينة لصراعات وأجندات الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، أضحى يقود الدول الأوروبية إلى التخلي التدريجي والممنهج عن سيادتها، وإلى التضحية لعقود طويلة من الزمن، بأمنها القومي ورخائها الاقتصادي الذي قدمت الكثير من التضحيات من أجل بلوغه، ومن أجل تحويل نمط الحياة الأوروبية إلى ماركة مسجلة تحلم بها كل شعوب المعمورة، وكأنها تقوم بإطلاق النار على رجليها أو على رأسها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/557u2una

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"