الجفاف والسنوات العجاف

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

عندما تظهر قيعان الأنهار، وتحل صخورها وأحجارها وطميها ومخلفاتها بألوانها المختلفة محل مياهها الزرقاء وصفائها الذي يروي الحاضر ويبعث الأمل في المستقبل، فهي نذير بأن الإنسانية مقبلة على سنوات عجاف، وأن نقطة المياه التي كان الناس يعبثون بها في الماضي قد تصبح صعبة المنال، وأن حياة ملايين البشر مهددة بعد أن جفت الحقول وتشققت الأراضي وتصحرت المزارع وذبلت المزروعات وندرت المحاصيل، وأصبح تدبير لقمة العيش لمليارات الكوكب الثمانية أمر تعجز أمامه حكومات.

قبل سنوات، ارتفعت أصوات العلماء محذرة من التغير المناخي وآثاره على البشرية، وأغلق الكبار آذانهم، واستهانوا بالأمر، معتبرين إياه من قبيل المبالغة، وأن نتائج البحث العلمي ليست سوى هواجس، وما يقوله العلماء من المستحيلات. وكذلك ارتفعت أصوات الحكماء منذرة بأن حروب العالم القادمة لن تكون نتيجة صراع على مصادر الطاقة والمعادن والممرات الدولية، ولن تكون سعياً لاحتلال واستعمار دول طمعاً في ثرواتها ومواردها الطبيعية، بل ستكون طمعاً ودفاعاً عن نقطة المياه التي جعل الله منها كل شيء حي، وفقدانها تهديد للحياة، وجفاف الأنهار التي يشرب الناس منها وترتوي بمائها جميع الكائنات الحية النباتية والحيوانية هو الرعب الذي يفرض على الإنسانية حالة طوارئ لتعيد النظر في أنماط استهلاكها للمياه، وتبحث عن الوسائل التي تضمن تدبيرها وحماية حياة الناس من نقصانها أو انعدامها.

من كان ينعم بالمياه بالأمس ويتباهى باخضرار أرضه، أصابه اليوم الفزع الأكبر بعد أن جفت أنهاره وانتشر اللون الأصفر على مساحات من أراضيه. وأوروبا التي تأتيها المصائب من كل حدب وصوب، هي أكثر القارات جفافاً، وشعوبها هي الأكثر هلعاً من المستقبل القادم بمفاجآت قد تغير المعادلات الاقتصادية، وتنثر رماد الجغرافيا السياسية الكلاسيكية لتستبدلها بجغرافيا جديدة تعيد توزيع مراكز الجذب السكاني ومراكز القوى السياسية على الكوكب الذي يشهد اليوم تغيرات معظمها غير مسبوق منذ بدأ الإنسان الرصد والتسجيل والبحث والتحليل بحسب ما أكدت المراكز العلمية والبحثية العالمية.

من الأنهار التي نقصت مياهها بشكل غير متوقع وجفت بعض مناطقها، نهر الراين في ألمانيا وهو أكبر أنهار أوروبا، ونهر التايمز في بريطانيا، ونهرا مينيو وجواديانا في إسبانيا، ونهر تاجوس في البرتغال، ونهر اللوار في فرنسا، ونهر مور في النمسا، ونهر الدانوب الملقب بنهر العواصم.

كارثة كبرى تحل بأوروبا بعد كارثتي كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وسوف تنجم عنها أزمات في الزراعة وأزمات في الثروتين الحيوانية والسمكية وفي توليد الكهرباء وفي النقل النهري، وأزمات تضاف إلى أزمات، ولا يستبعد أن يدفع ذلك المواطن الأوروبي الذي أصبح يعاني الحاجة، ويلجأ أحيانا للصوصية، كما يحدث في شوارع لندن، لأن يسعى مستقبلاً للهجرة عبر المتوسط جنوباً بحثاً عن الأمان المعيشي والبيئي والمناخي في قارات أخرى وأولها إفريقيا التي كان ومازال مواطنوها يهاجرون تسللاً إلى أوروبا أملاً في حياة أفضل.

الحكومات الأوروبية لم تجد أمامها سوى مصارحة مواطنيها بالحقيقة وتجهيزهم نفسياً لقضاء شتاء قارس بلا طاقة وبتكاليف مزعجة مادياً بعد الصيف الجاف بحرارته التي قتلت وشردت البشر وجففت الأنهار والتهمت المحاصيل، حيث أعلنت بريطانيا لمواطنيها أن أسعار الطاقة سترتفع في أكتوبر بنسبة 80%، في حين أعلن الرئيس الفرنسي «نهاية زمن الوفرة»، ومهدت ألمانيا على لسان أكثر من مسؤول مواطنيها للتعايش مع أزمتي طاقة وغذاء.

قد تكون أوروبا الأكثر تأثراً بموجة الجفاف والتصحر واشتداد الحرارة، ولكنها ليست وحدها التي تتعرض لظواهر مناخية غير مسبوقة، فأمريكا وكندا والمكسيك وغيرها أيضاً تعاني، ونهر كولورادو في جنوب غرب الولايات المتحدة تعرض أيضاً للجفاف، كما أن 7 ولايات أمريكية مهددة بالجفاف، كذلك مناطق كبيرة من المكسيك، وعلى الجانب الآخر من الكرة الأرضية، نقصت مياه نهر اليانغستي في الصين (ثالث أطول أنهار العالم) بشكل كبير، وتعرضت أجزاء منه للجفاف نتيجة الحر الشديد، وسط مخاوف من «وضع خطير» في مقاطعة سيتشوان بسبب فقدان المياه في نظام الطاقة الكهرومائية.

أوروبا تجف، والجزيرة العربية تشهد في عز الصيف أمطاراً غير مسبوقة، ومناطق مختلفة من إفريقيا وآسيا تشهد سيولاً وفيضانات.. ظواهر تُخرس أَلْسنة المشككين في التغير المناخي، وتنذر بأن العالم يتغير وأن الغد أبداً لن يكون مثل الأمس.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p8mkmwm

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"