ثورة كينز والحركة الحديثة

20:43 مساء
قراءة 3 دقائق

د. عبد العظيم حنفي *

أصبح من السهل بنظرة إلى الخلف، تبين الخط الفاصل في التقنيات الاقتصادية للقرن العشرين. وفي عام 1930، أصبحت إنجلترا هي مركز الاقتصاد العالمي كما كانت منذ 150 عاماً مضت، وتوافد الأوروبيون إلى لندن متشوقين لمناقشة الكساد الكبير. وقد واجهوا حالة من عدم الفهم من قبل كبار السن المحافظين على التقاليد المارسالية. فقد كان سادة المهنة، وخاصة الأساتذة في جامعتي أوكسفورد وكامبريدج المشتبكين في جدل يصعب سبر أغوراه حول تناقص وتزايد العوائد. وكان يبدو أن جميع الحركات التقدمية في المجال قد توقفت؛ وذلك في الوقت الذي قفزت فيه معدلات البطالة إلى 25% في المملكة المتحدة وفي الديمقراطيات الصناعية الأخرى.

بحلول عام 1945، انتعش الاقتصاد من جديد، وأصبح أكثر تفاؤلاً، ونبضاً بالحياة - وأصبح مقره الرئيسي أمريكا. وقبل هذا الحد الفاصل، کتب الاقتصاديون بأسلوب أدبي، ونادراً ما استخدموا الأرقام، وطرحوا النظريات. وفيما بعد، كتبوا الرياضيات؛ وذلك على الرغم من احتمالية قياسهم لكل شيء. وبدلاً من طرح النظريات قاموا ببناء النماذج.

ماذا حدث؟ الكساد الكبير بالطبع. وجون ماينارد كينز. والقصة كما تروی على الدوام هي أن الثورة الكينزية بدأت نحو عام 1935، وكان ذلك هو الوقت الملائم لكشف أسرار القوى التي تسببت في خلق حالة الكساد العالمي غير المسبوق - ولإنقاذ الرأسمالية الصناعية من قدر التخطيط المركزي.

قيل: إن كينز اكتشف «الاقتصاد الكلي». وقد كان عالماً غريباً لا يقابل فيه العرض بالضرورة بالطلب، ولم يكن الادخار أمراً محموداً بالضرورة كما لم يكن الاقتراض سيئاً بالضرورة، وهو عالم شديد الاختلاف عن العالم اليومي «للاقتصاد الجزئي»، للادخار ومقارنة التسوق، كما قيل إن كلمات أينشتاين اختلفت عن كلمات نيوتن.

في نفس الوقت، فإن زهرة جيل من العلماء بقيادة ألبرت أينشتاين بنفسه كانوا يطاردون في أوروبا بأكملها من قبل النازيين. واستوطن معظم هؤلاء العلماء في أمريكا، متسببين في انتقال مركز الثقل في العديد من المجالات إلى العالم الجديد، بما في ذلك مجال الاقتصاد. وهكذا أسهم مشروع خطة كينز في وضع أساس للرخاء العظيم في فترة ما بعد الحرب - وللانتصار الأكيد للغرب على الدول التي اختارت الشيوعية.

وقد حدث شيء من هذا القبيل، عندما كانت موجة من التفكير العلمي تجتاح عقول الاقتصاديين التقنيين في العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي، وتسببت تلك الموجة في رفع طموح الاقتصاديين وفي وضع أدوات حديثة في أيديهم. ويمكن تسمية ما حدث بالبرنامج الحديث - وهو مصير مشترك لتحل الأساليب الصارمة محل غموض المنطق اللفظي. وقد ولد مؤسسو هذا البرنامج في مطلع القرن العشرين. وكانوا مشربين بحالة من التفاؤل الواسع حول الاحتمالات العلمية التي كانت علامة مميزة لتلك الأيام.

أراد بعضهم أن يبني التفكير الإحصائي داخل النظرية الاقتصادية، لأغراض تحليل البيانات المستقاة من العالم الحقيقي. وبينما كان آخرون أكثر اهتماماً بالمشاكل العملية للتخطيط. في حين كان آخرون يصرون على بناء خطة رسمية بحتة للتحليل الرياضي للتفاعلات الإنسانية، بدأوا بحفنة من البدهيات. في حين كان بعضهم يرى خلق علم للسلوك الاستراتيجي.

أما السمة المميزة لكل تلك المجموعات والفصائل فكانت تفضيل الطرق الرياضية والمنطق الرسمي: وقد نبعت الحركة الحديثة بالتضاد مع التقاليد الأدبية القديمة لعلم الاقتصاد. وكان للحماس المشترك الذي ساد بعد عام 1945 علاقة كبيرة ببناء الأدوات لتلك المهن الحديثة كما كان له علاقة «بالاقتصادات الكينزية» المعروفة بشكل أكبر.

ربما لو كان «رامزي» قد عاش لكان قد أصبح أحد أعظم اقتصاديي القرن العشرين. وعلى الرغم من أن «نظرية رياضية للادخار» لم تعد إلى الحياة من جديد حتى الخمسينات من القرن المنصرم، على يد «روبرت سولو». فإن الطرق الخاصة بالإنجليزي «رامزي»، وليست طرق الأمريكي «ألين يونج» هي التي تم تطبيقها في العالم الجديد، كجزء من الحركة الحديثة.

* أكاديمي مصري

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/a4fwnhnj

عن الكاتب

​كاتب مصري - أستاذ للعلوم السياسية والاقتصادية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"