دولة أمريكا الأخرى

00:35 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاطف الغمري

هل أمريكا تعد دولة أم دولتين؟ السؤال قد يبدو عبثياً، لكنه مستخلص من واقع تتصادم فيه سياسات رؤساء أمريكيين مع غيرهم من رؤساء آخرين.

الواقع يتحدث عن رؤساء، وإن كانوا قلة، تحركهم مصلحة الأمن القومي لبلادهم قبل أي شيء آخر، ورؤساء آخرين تحتل أولوية اهتماماتهم توجهات تبدأ بالمصلحة الشخصية، خاصة بالنسبة لإعادة انتخابهم، ومراعاة نفوذ قوى جاهزة لتمويل حملاتهم الانتخابية، وتأثير قوى الضغط، وجماعات المصالح.

بعيداً عن الاستنتاج النظري، فإن وثائق التاريخ تقدم شهادة مسجلة قد ترد على السؤال، فالتاريخ يشهد على واقعة خارجة عن المسار المألوف لقرارات الرؤساء وهم في البيت الأبيض.

وأمامنا ما فعله الرئيس جون كنيدي في أول الستينات، عندما أرسل وفداً من العلماء المتخصصين في الأبحاث النووية إلى إسرائيل، في مهمة للتحقق من أنها تجري أبحاثاً لصنع قنبلة نووية. وعاد العلماء بنتائج تؤكد مخاوف كنيدي، الذي أبلغ إسرائيل رفضه لمشروعها. وهو ما أدى إلى أزمة بين البلدين، دفعت بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي، للاستقالة من منصبه، لكي يخلق من توسيع دائرة الأزمة ضغوطاً من القوى اليهودية الأمريكية على كنيدي.

نموذج آخر حدث عندما قرر الرئيس جورج بوش الأب فرض عقوبات على إسرائيل بمنع مشروع لمنحها قرضاً قيمته عشرة مليارات دولار، والسبب تراجع رئيس وزرائها إسحاق شامير عن التزامه بوقف بناء المستوطنات. ثم توجه بوش إلى الرأي العام الأمريكي، مؤكداً أن موقفه هو لمصلحة الأمن القومي للولايات المتحدة، وهو ما كان ضربة لرعونة إسرائيل.

ثم كانت الواقعة التي أثارت غضب القوى اليهودية الأمريكية، والتي حشدت لها كل قواها في مواجهة رئيس أمريكا. حدث ذلك عندما أعلن الرئيس جيرالد فورد في عام 1975، إعادة النظر في مجمل سياسته الخارجية في الشرق الأوسط؛ وذلك رداً على تراجع إسرائيل عمّا كانت قد وافقت عليه في اتفاق فض الاشتباك مع مصر. وكان قرار فورد يعني مراجعة شاملة لسياسة أمريكا تجاه إسرائيل.

ثم جاء الدور على الرئيس بيل كلينتون بعد أن أعلن عزم أمريكا حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بناء على خطة أمريكية خالصة، من خلال القمة الثلاثية التي شارك فيها بنفسه، مع نتنياهو وياسرعرفات في منطقة واي بلانتيشن خارج واشنطن.

هنا يكون السؤال: لماذا لم يحقق أي واحد منهم مراده، وفق خطة محكمة كان قد رسمها بإحكام؟

إن الأسباب مسجلة بالوثائق، بدءاً من اغتيال كنيدي، وخروج نائبه جونسون والذي أصبح رئيساً، عن الخط السياسي لكنيدي، وأيضاً هزيمة بوش الأب في الانتخابات لتجديد رئاسته فانتهى بذلك مشروعه. وكذلك فشل فورد في انتخابات التجديد لرئاسته. أما كلينتون فكان ضحية مؤامرة شديدة التخطيط لإرباك جميع حسابات سياساته الخارجية، لعبت الدور الرئيسي فيها فتاة «الموساد» اليهودية مونيكا لوينسكي.

إن ظاهرة التفاوت الكبير بين رؤساء وبعضهم البعض، تعرض لها هنري كيسنجر في كتابه «سنوات التجديد» الصادر عام 1999، والذي اختار فيه جيرالد فورد نموذجاً، لأنه اقترب منه عندما عمل وزيراً لخارجيته، من بعد إرغام نيكسون على الاستقالة. وصف كيسنجر موقف فورد بأنه لم يكن يتصرف بحسابات السياسي المحترف؛ بل كان يفعل ما يراه سليماً، وفي مصلحة الولايات المتحدة، من دون أن يضع في حساباته اعتبارات السياسات الداخلية، واحتياجات تمويل الحملات الانتخابية، وأدوار قوى الضغط.

ومثلما يقول المفكر البارز فريد زكريا، فإن سياسة أمريكا الخارجية يحركها في المقام الأول اقتناع بأن قوة أمريكا تبرر لها السعي إلى اكتساب نفوذ أكبر على البيئة العالمية. وهو توجه تؤكده الوثيقة التي أصدرتها وزارة الدفاع الأمريكية عام 1992، والتي نصت على وجوب قيام أمريكا بتعويق قدرة أية دولة صناعية متقدمة عن تحدي قيادة أمريكا للعالم. أو أن يكون لديها طموح في دور عالمي أو إقليمي أكبر مما هو متاح لها. ويلتف حول هذا التوجه أنصار يدعمونها من النخبة في مؤسسة السياسة الخارجية، بينما هناك تيار آخر يزداد قوة يرفض طموحات فرض نفوذ أمريكا على العالم، مما يجردها من فضيلة كبح الاندفاع، وضبط النفس.

وبرز دور التيار الأول في دعم التشدد في الأزمة مع روسيا، إلى الدرجة التي لم تدفع أوكرانيا إلى الدخول في مفاوضات مع روسيا لإنهاء الأزمة، وخلفها الصيحات المنادية بإذلال روسيا؛ بحيث تكون دولة ضعيفة.

المشهد الحالي الذي يظهر وجود تيارين متعارضين على مستوى النخبة، بدا وكأنه مكمل لمشهد الاختلافات بين رؤساء أمريكيين أثناء سكناهم البيت الأبيض، وهو ما يعيد طرح السؤال، حتى وإن كان نظرياً: هل أمريكا تعد دولة أم دولتين؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2c6tjbya

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"