عن الديمقراطية التي ننشد

00:55 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو

«عن أية ديمقراطية نتحدث»؟ كان سؤالنا في مقالة سابقة، ذلك أن موضوع الديمقراطية الذي ظن الكل أنه قد حسم منذ زمن طويل، قد أصبح الآن موضوع الساعة عبر العالم كله، بما في ذلك عبر البلدان التي وضعت أسس الديمقراطية وطوّرتها وصدّرتها للعالم كله.

وعبر عقود طويلة، قيل إن الديمقراطية التمثيلية، المكونة أساساً من وجود أحزاب سياسية متنافسة عبر انتخابات دورية حرة ونزيهة، ومن وجود برلمانات يتكلم أعضاؤها المنتخبون باسم الشعب ولمصلحة الشعب ويراقبون ويحاسبون السلطة الحكومية، هي الأفضل، والأنزه، والأكثر حماية للمصلحة العامة.

لكن تراجع ثقة الناس بالأحزاب، لأسباب كثيرة، وتراجع نسبة الناخبين إلى حدود مقلقة وخطرة، وهيمنة أصحاب المال والوجاهة الاجتماعية ومؤسسات الإعلام التابعة لهم في كثير من بلدان العالم على العملية الانتخابية برمتها، قاد إلى برلمانات خادمة لمصلحة جهات الهيمنة، بدلاً من المصلحة العامة. وظهر ذلك جلياً في السنين الأخيرة، عندما عجزت البرلمانات عن الوقوف في وجه الهجمة الرأسمالية النيوليبرالية العولمية بالغة التوحش والانحياز لأصحاب الثروة الطائلة، وعمليات الخصخصة الفاسدة الظالمة للطبقات الفقيرة والمتوسطة.

من هنا طرح البعض، منذ نحو عقدين من الزمن، شعار الديمقراطية التشاركية التي ركزت على الجانب الاقتصادي في الديمقراطية، واشترطت وجود عدالة معقولة في توزيع الثروة، ووجود دولة الرعاية الاجتماعية لتوفير الخدمات الاجتماعية والمعيشية، للفقراء والمهمشين على الأخص.

لكن مظالم وأطماع وأنانية وفردية الأنظمة النيوليبرالية لم تتراجع، وزاد غنى الأغنياء، واستفحل فقر الفقراء، فكان أن طرح البعض مؤخراً، فكرة الديمقراطية الانتمائية.. وهي تركز على تنظيم وتنشيط وتعاضد مواطني المجتمعات المحلية ليديروا الكثير من شؤونهم المحلية، وليشاركوا من خلال لجان محلية منتخبة في وضع أولويات ووسائل صرف ميزانياتهم المحلية، وما تخصصه الحكومات من أموال للمجتمعات المحلية، وليتعاضدوا في الضغط على الأحزاب والحكومات والبرلمانات ليقوموا بمسؤولياتهم تجاه خدمة عموم المواطنين بدلاً من خدمة مصالح أصحاب المال والوجاهة والنفوذ. في هذه الديمقراطية يشارك كل أفراد المجتمعات المحلية في خدمة مجتمعاتهم من جهة، وفي خدمة كل الوطن من جهة أخرى.

نحن إذاً، أمام سيرورة تفضح عاماً بعد عام أكذوبة الديمقراطية الليبرالية التمثيلية التي كانت تتكلم باسم الأكثرية، كذباً ونفاقاً، لتخدم الأقلية. وغابت العدالة والقيم الإنسانية والأخلاقية وراء أقنعة من الشعارات التي تناست روح الديمقراطية الإنسانية الحقة.

ما يهمنا، نحن العرب، وإذ نتطلع بأمل مستقبلي، أن ندرس تلك السيرورات في مختلف البلدان، وأن نعي تاريخها بعمق، وموضوعية منطلقة من حاجاتنا المستقبلية وعقائدنا الأخلاقية، حتى نتجنب الوقوع في أخطاء الآخرين، وفي أحابيل المتلاعبين بشعار الديمقراطية من أجل خدمة مآرب أخرى.

ما يهمنا بالدرجة الأولى أن يعي شباب وشابات الأمة العربية الأهمية القصوى لطرح كل الأسئلة حول مكونات ومبادئ ومنهجيات الديمقراطية التي ننشدها. وهذا المنهج لا يعني إطلاقاً الشك، أو التردد بشأن أهمية الانتقال إلى نظام ديمقراطي غير مزيف، وغير منافق.

على الشباب أن يقرأوا كثيراً عن أدبيات هذا الموضوع ليعملوا من أجل الديمقراطية التي يريدون. وهم بحاجة لأن يقيموا جبهة عالمية لديمقراطية حقيقية تمارسها الشعوب، وترعى مصالح الشعوب. موضوع الديمقراطية هو محلي ووطني وقومي وإنساني، يجمع أفضل ما في التمثيلية والتشاركية والانتمائية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n7fvs5e

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"