لبنان.. رجاء واحد

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمد نورالدين

أطلق البعض على حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 في لبنان لقب «ثورة». تذرعت «الثورة» باقتراح وزير الاتصالات حينها زيادة بضع سنتيمات على فاتورة الجوال والإنترنت.

نزل عشرات الآلاف إلى الشوارع رافعين شعار «كلن يعني كلن» في إشارة إلى أن كل الطبقة السياسية مسؤولة عن الانهيار الاقتصادي في البلاد. لم يكن الانهيار الاقتصادي قد بدأ عملياً ولم يكن قد استفحل. أما شعار «كلن يعني كلن» فانحرف ليتم توجيه السهام إلى فئة محددة من القوى السياسية، في حين أن الحكومة التي حصل الانهيار في عهدها كانت تضم جميع القوى دون استثناء بما فيها تلك التي تبنت لاحقاً الثورة كأنها كانت براء من دم هذا الصديق.

أيام قليلة وربما بضع أسابيع وعادت «الثورة» إلى بيتها و«الثوار» إلى مراجعهم السياسية. ومنذ ذلك الحين لم يعد يسمع صوت للثورة التي أرادت المحاسبة. انهار من حينها كل شيء وسُحقت كل القطاعات ولم تعد تأتي الكهرباء حتى ساعة واحدة في اليوم. وارتفعت الأسعار عشرين وثلاثين مرة، وانهار سعر صرف الليرة عشرين مرة وأكثر. وكان الانهيار الأكثر دلالة انحلال الدولة. لم يعد يذهب الموظفون إلى أعمالهم، لأن راتبهم لم يعد يكفي للتنقل فكيف بإطعام عائلاتهم وتعليمها وتطبيبها. حتى جنود الجيش الوطني يعيشون اليوم على تبرعات دول خارجية. تحللت الدولة وسرقت أموال المودعين في المصارف، لكن شيئاً واحداً بقي وهو «المنظومة»، وهي مزيج من تكاتف السياسيين، من نواب ووزراء، والقادة العسكريين والأمنيين والقضاء وأصحاب المصارف. منظومة متكاملة هي باختصار «الدولة العميقة» في لبنان.

في ظل الاهتراء والتحلل لكامل أجهزة الدولة وحاضنيها وفي ظل انسحاق غالبية الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسطة، ما عاد أحد يسمع عن «الثورة»، وبات السؤال أين هم ثوار بلادي؟ من أجل سنتيمات معدودة انفجر ما سمي بالثورة، لكن تحلل دولة بالكامل لم يكن يستدعي ولو اقتراحاً أو احتجاجاً واحداً ولو لذرّ الرماد في العيون.

حتى الانتخابات النيابية التي جرت في مايو/أيار الماضي، لم تعط قوى «الثورة» أكثر من 13 نائباً من أصل 128 نائباً. ولم تعط قوى الاعتراض الأخرى أكثر من أربعين نائباً. وهؤلاء يهددون منذ الآن أنه إذا لم يأت رئيس جديد للجمهورية بحسب شروطهم فسيشعلون الشارع من جديد. هكذا ببساطة بعدما نامت الثورة أكثر من سنتين ونصف السنة انهار فيها كل شيء ولم يرف لها جفن، تهدد الآن باللجوء إلى الشارع ليس من أجل الناس وتصحيح الأجور وتحقيق الإصلاح ورفع الضغوط على لبنان؛ بل من أجل أهواء سياسية يفترض ان يحتكم فيها إلى البرلمان والقبول بمن ينتخبه رئيساً أياً يكن ما دام الاحتكام إلى صندوقة الاقتراع والديمقراطية هو المدخل الوحيد إلى شرعية القوى السياسية. فلماذا إذن التهديد باللجوء مجدداً إلى الشارع؟

لقد سئم اللبنانيون لعبة القوى السياسية التقليدية والجديدة. وحتى الجديدة ليست سوى نسخة مزيفة من القوى التقليدية القديمة.

لقد ابتلي لبنان بمصائب كثيرة، لكن اللامبالاة التي تواجه بها المنظومة الحاكمة مطالب اللبنانيين هي مما لم يشهد لبنان مثيلاً له عبر التاريخ. ولذلك فإن البحث عن علة العلل بسيط وهو قيام الدولة على أسس طائفية؛ بحيث أن أي إصلاح غير ممكن؛ بل مستحيل. وإذا كان الإصلاح عرف بعضاً من توهجاته في عهد الرئيس الراحل فؤاد شهاب (1958-1964)، لكن «اتفاقية الطائف» عام 1989، التي أعقبت حرباً أهلية دامت 15 عاماً نهشت الجسم اللبناني بقواعدها الطائفية، وكانت أسوأ بما لا يقاس من النظام الطائفي السابق.

حكم على لبنان بالموت حياً وبالتحلل مثل جثث قارب الموت الذي غرق منذ مدة قبالة شواطئ مدينة طرابلس اللبنانية. فكلما أمسك بجثة لانتشالها تتفتت وتتحلل في المياه كأنها لم تكن موجودة.

لبنان اهترأ. وكل فترة يتحلل أحد قطاعاته من الكهرباء إلى المياه والنفايات ومن الإدارة إلى الصناعة والزراعة وآخرها قطاع الإنترنت. الكل يهاجر والكل يترك دون عودة ما كان يسمى وطناً.

لبنان مات. لم يعد جائزاً القول إنه يموت. ولم يعد جائزاً حتى الترحم عليه. أيام يعدها اللبنانيون الذين يرون في اقتراب ساعة الرحيل منقذهم الوحيد من الذل والتسول والمهانة والمجاعة التي هم فيها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/34acm9ee

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"