لبنان وإيطاليا وآفة الفساد

00:37 صباحا
قراءة 4 دقائق

د. نسيم الخوري

سبق أن أطلق لبنان وزارة جديدة فاسدة اسمها:«مكافحة الفساد»، لكن لطالما حلم اللبنانيون بقاضٍ أو قضاة يمحقون الفساد والفاسدين بدلاً من أن يعلنوا الإضراب العام وتقفل العدليات والنيابات العامة وتفتح الساحات للخارجين إلى الجرائم والوطن المستباح بما يتجاوز طاقات الأجهزة الأمنية. لماذا انتظر القضاة تآكل رواتبهم وأنا ومثلي كثيرون من أساتذة الجامعات تم أكل رواتبنا؛ بل تحقيرنا وأكل كراماتنا الأكاديمية ومعظم القضاة من طلابنا، لماذا لم يخرجوا ويعلنوا منذ زمن إلى اللبنانيين المقهورين والجائعين الجمهورية الجديدة الثالثة؟

لا جواب، بل ألف جواب لا مجال له هنا. لاح بل برز نجم غير منتظر اسمه «نادي قضاة لبنان» (24-2-2020) مطالباً بالمساءلة وتكريس دولة القانون. فرح الناس وهللوا، وهللنا معهم وكتبنا وخطبنا ونشرنا باسم «التجمع الأكاديمي للأساتذة الجامعيين»، واجتمعنا بمؤسسي النادي على غرار الدول الديمقراطية والتي تفهم معاني فصل السلطات وقيمها، وشجعنا الدنيا على تقديم الإخبارات وفتح الملفات المتراكمة بما يتجاوز حجم تلك الجمهورية بجرائم الفساد والإثراء غير المشروع وتأملنا كثيراً وتألمنا وما زلنا نتألم مع اللبنانيين أكثر فأكثر.

وهلّلنا عندما تم إعلان الحرب على الفساد والفاسدين من قبل بعض الجهات الحزبية، لكن همساً قوياً ساد آنذاك بأن القضاء على الفساد أصعب وأشرس وأعقد من القضاء على الأعداء مهما كانوا شرسين، وكتبنا هذا وهكذا بقينا في ما كان وأمسى وأصبح وما زال وما فتئ وما برح؛ حيث الفساد يلتهمنا فرداً فرداً... وكأن المواطنين أغنام.

كانت رئيسة النادي الأولى القاضية نادية سلامة التي جذبت انتباهات أكثريّة اللبنانيين المتخبّطين مالياً واقتصادياً ونقدياً وصحياً إذ اعتبرت «أنّ الأزمات التي يواجهها الشعب اللبناني هي وليدة فساد معظم الحكام ومنظوماتهم القضائية والمصرفية والإدارية والأمنية العتيقة الفاشلة عن التفكير بأيّة رؤية إنسانية اقتصادية هادفة» وانصبَّ الهمّ على انتشال وطن مشاع ومشلع بين أنياب الذئاب الكاسرة التي لا مثيل لها في التاريخ.

غير صحيح. لها مثيل جعلنا نتذكر القضاء الإيطالي، عندما طالب النادي بإصدار قانون يجمّد الأصول المنقولة وغير المنقولة لكل المسؤولين من دون تمييز كضمانة لودائع الشعب الإيطالي الذي وقع ضحية جشع الفاسدين من الطبقة السياسية.

وحمّل النادي، لأوّل مرّة في تاريخ لبنان، الهيئات الرقابية المصرفية، لا سيما هيئة التحقيق الخاصة مسؤولياتها وأوعز إلى هؤلاء ضاغطاً بتقديم استقالاتهم، إذ لا يمكن أن تحول الحصانات القانونية التي يتمتعون بها دون مساءلتهم، للإتيان بأشخاص أصحاب صدقية وسمعة عالية. وأكثر، راح القضاة يحفّزون هيئة التحقيق الخاصة المباشرة بالتحقيقات اللازمة في ما يتعلق بحسابات الذين تولّوا الشأن العام وإعلام الرأي العام بالتفاصيل، وكذلك إلزام أصحاب المصارف اللبنانية بإعادة الأموال المهرّبة إلى الخارج ورفع رساميل مصارفهم خلال فترة قياسيّة على أن يتم ذلك من أموال جديدة (fresh money) وليس باستبدال قيود حسابية لا تحقق النتيجة المرجوة. واعتبر النادي أنّ المحاكم الجزائيّة والنيابات العامّة، وليس المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، هي المختصة بملاحقة ومحاكمة الوزراء بالجرائم العادية المقترفة خلال ممارستهم لمهامهم، استناداً لاجتهاد الهيئة العامة لمحكمة التمييز (الصادر بتاريخ 8-3-2000).

ولأنّ لبنان صار يشبه إيطاليا في سرد «ثقافة الفساد»، بل تجاوزها، عاش اللبنانيون نشوة بدايات التغيير السحري، وهم يتناقشون ويستعيدون تذكر الفضائح التي هزّت إيطاليا عام 1994 التي دفعت الإيطاليين إلى تسمية عاصمتهم روما «مدينة الرشى» وهو ما لم يهزّ زعامة رئيس حكومتهم «ملك الفساد»، سيلفيو برلسكوني الثري رقم 14 في أنحاء العالم من العودة إلى الحكم بعد تنحيته في الـ2001 قائلاً بأنّه « ضحّى ويضحّي ويسدي خدمات للشعب والدولة وهم بحاجةٍ قصوى إليه، وهو بالمقابل ليس بحاجةٍ إلى أيّ منصب أو سلطة». وحتّى عندما طرده الشعب من منصبه بعد خمس سنوات، مثبتاً للعالم الشعار المقدّس بأنّ أضخم الثروات عاجزة عن حماية الفاسدين وإبقائهم في مناصبهم، علّق بالحرف الواحد مكابراً، وكان اقتصاد إيطاليا ينهار تحت قدميه يومذاك: «إنّ شعوراً أعمق ينتابني بأنّني لست بحاجةٍ إلى الشعب الإيطالي. هو بحاجةٍ إليّ وإنّني أقدّم له اليوم بخروجي كما بدخولي إلى الحكم تضحية تاريخية».

يتماهى البعض من القضاة اللبنانيين المضربين اليوم بالقضاء الإيطالي، وتتشبّث بأحاديثهم سيرة القضاء الإيطالي الذي أعلن الحرب على الفساد (1992)، وقضى عليه حين اكتشف أثناء التحقيقات تورط بعض السياسيين في قضايا رشى. توسّع في التحقيق ليجد نفسه حيال شبكة ضخمة يتورط فيها شخصيات من كل الوظائف والمستويات، وزراء ومديرو شرطة، مدنيون وعسكريون، دبلوماسيون، رجال أعمال وزوجاتهم وأولادهم وأصهارهم وأزلامهم.

اتخذ القضاء قرارات بتوقيف كل المتورطين مهما كانت مناصبهم، وشملت الاعتقالات 5000 شخص بينهم أكثر من 1000 من رجال الدولة والسياسة من وزراء في الحكومة ثم رئيس الوزراء الذي هرب لتونس ليقضى هناك بقية حياته. حارب القضاء بل لغم دولة بأكملها وفجرها، مضيفاً لأعدائه عصابات المافيا مانحا العملية تسمية: «الأيادي النظيفة».

هبّ الإيطاليون كالمجانين لحجم الفساد الذي اكتشفوه، وخرجوا في مظاهرات تدعم القضاء وتعتبره مخلّصاً غنى له الإيطاليون بشعار وصوت واحد: « جعلتنا أيها القاضي نحلم».. وتحوّل القضاء بعدها أسطورة إيطالية حية ألهبت المحللين والكتّاب في الدنيا.

عندما سئل القاضي دو بييترو، كيف قمتم بتلك «المعجزة وقد كنتم ستدفعون حياتكم ثمناً لذلك»، أجاب مازحاً:«يشبه الفساد زواج المصلحة. إذا أفسدنا المصلحة يبطل الزواج، ويصبح الأحبة أعداءً يدمّر بعضهم بعضاً».

دخل دي بييترو تاريخ إيطاليا مدمراً طبقة فاسدة عمرها أربعة قرون ومدمراً أحزاباً تاريخية، وانتهت على يديه الجمهورية الإيطالية الأولى لتعلن الجمهورية الثانية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/23te8fsa

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"