الفراغ في لبنان نهج سياسي

00:50 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

بعض الدول تصنع الأمل لمواطنيها، بالإنجاز والتحفيز والتعليم والتدريب، وتوفر للفرد أجواء الإبداع والتفوق والتميز وتحقيق الذات، وتمنحه الاستقرار والعيش الآمن والسلام والسكينة والطمأنينة، بينما دول أخرى تغتال الأمل عند أبنائها، وتسلبهم حق الحياة، ولا يجنون من العيش في ربوعها سوى القلق والتوتر وافتقاد السلام والأمان.

لبنان دولة كانت لا تكتفي بصناعة الأمل، لكنها كانت تنشره في محيطها ما جعلها موطناً للمبدعين وهدفاً للفنانين وجاذبة للسائحين وحلماً للأحرار ومطمعاً للباحثين عن المجد والمال والاستقرار النفسي والأمان السياسي من أبناء الدول العربية، وبإرادة سياسييها تحولت إلى النقيض، وأصبحت طاردة للموهوبين ومشرّدة لكل فئات شعبها، وأولي الأمر فيها ملفوظون من حكومات العرب والعجم باستثناء من يقتادونهم والدولة إلى الهاوية أو إلى قعر جهنم حسب أوصاف سياسيين لبنانيين يرون أن بلادهم سقطت في قعر القعر بعد أن كانت على قمة القمة.

لبنان من فراغ إلى فراغ، والفراغ الذي يعيشه ليس هو الفراغ السياسي نتيجة تعطيل تشكيل الحكومة وهو ما أصاب الدولة بالشلل التام، ولا هو الفراغ الرئاسي المنتظر بعد 31 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، وهو التاريخ الذي سيرحل فيه الرئيس الحالي ميشال عون، لكنه الفراغ الاقتصادي بعد فقدان الثقة في النظام المصرفي الذي عجز عن الوفاء بالتزاماته تجاه المودعين والمتعاملين واستحدث في لبنان دون غيره من العالم مصطلح «فريش دولار» بعد تجميد آلاف وملايين الدولارات المودعة في البنوك قبل استفحال الأزمة، وأيضاً الفراغ الاجتماعي بعد أن هاجر الكثير من خيرة شباب لبنان إلى أنحاء متفرقة من العالم بحثاً عن الأمان المعيشي، وهو ما نجم عنه تفتت أسر وتفرق أبنائها بين المشرق والمغرب من دون أمل في أن تجمعهم أرض لبنان مستقبلاً.

المواطن اللبناني فقد الثقة في دولته برئاساتها وحكومتها وبرلمانها وأحزابها وتكتلاتها، وأصبح لا يؤمن بها حاضراً ولا يأمل فيها مستقبلاً.

المواطن لم يفقد الثقة في أباطرة السياسة الذين احتلوا الدولة منذ عشرات السنين وتقاسموا المناصب والمصالح بينهم، ونشروا الفكر الطائفي لأجل أن يتمكنوا من الشعب ومقدراته وثرواته وطموحاته، لكنه أيضاً فقد الثقة في نواب التغيير الذين أوصلهم إلى مقاعد البرلمان في الانتخابات الأخيرة، وفوجئ بهم مفتتين وعاجزين عن التوحد ومشوشين في رؤاهم ومتذبذبين في مواقفهم، ليصبح التغيير الذي وعدوا الشعب به في خبر كان.

وبعد أن قسّم السياسيون الشعب طائفياً ومذهبياً واختلقوا له المعارك والأزمات التي تشغله، وبعد أن عجزوا عن توفير رغيف الخبز له، وجعلوا أيامه لا تقل ظلاماً عن لياليه بعد أزمات الوقود والكهرباء التي وضعته في عتمات حياتية، بعد أن هدموا ميناء بيروت وأحرقوا ما تبقى منه. لبنان هذا لم يعد أمامه سوى عزله عن العالم بعد البدء في قطع الإنترنت عنه، ولعل الهدف محاصرته ومنعه من التواصل مع الخارج والتضييق على محاولاته الصراخ عبر وسائل التواصل حتى ينفردون به ويفرضون عليه ما يشاؤون دون أن يسمعه أحد.

العالم يتقدم خطوات للأمام، ولبنان يعود خطوات إلى الخلف، وإعادته إلى الزمن السحيق لم يعد مجرد كلام بعد أن انهارت عملته وتفتتت عائلاته، وأصبح الناس لا يجدون الكهرباء ويعجزون عن توفير احتياجاتهم من المازوت والبنزين، والمرضى يموتون بسبب دواء غير متوفر. المدرسون يضربون مطالبين بحقهم في الحصول على مرتباتهم بالدولار بعد أن فقدت الليرة قيمتها، ومنظمة اليونيسيف تحذر من أن «الأزمة​ في لبنان تجبر الشباب والشابات، على ترك التعليم والانخراط في عمالة غير رسمية وغير منتظمة والقبول بأجور متدنية في سبيل البقاء على قيد الحياة ومساعدة أسرهم على مواجهة التحديات المتزايدة».

كل ذلك يحدث فيما قادة الأحزاب السياسية في حالة اشتباك وتلاسن لا يتوقف وفراغ دائم، والفراغ الأكبر سيكون الفراغ الرئاسي مع الفراغ الحكومي؛ حيث تشير السلوكيات السياسية إلى وقوع الدولة في فراغ كبير، بعد أن أصبح الفراغ نهجاً سياسياً وأسلوباً للتحكم في وطن يكاد أن يصبح جثة هامدة.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2s36wafs

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"