ملء الفجوات

00:30 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

«الأنا» سر عظيم، يتحكم محتواه بصاحبه وفق انسجامه مع ذاته، إما أن يجعله إنساناً عادياً وموضوعياً يعلم أين موضع قدميه ومدى سقف رأسه، وحجم قدراته وإمكاناته ومواهبه، وإما أن يجعله إنساناً متخبّطاً يجهل حدود علمه ومستوى ذكائه وصدق معلوماته، فيربك ذاته ومن حوله، وإما أن يجعله إنساناً أرعن يقفز دائماً عن واقعه فلا يرى ذاته إلا في الوهم ويصاب بجنون العظمة. وأمراض «الأنا» لا تفرّق بين أنثى وذكر، وأجزم أنها مقتصرة على البشر لحاجتهم الماسة للدعم المعنوي، فإن لم يجدوه خارجهم تصنعه دواخلهم فتطفو ملامحهم على سلوكهم.

وهناك حالات أخرى يعلمها المحللون النفسانيون أكثر ويرجعونها إلى فجوات في النفس البشرية تتطلب ردمها لتحقيق نسبة من التوازن. وهذا التوازن عملية معرفية قد تكون دقيقة لارتباطها بالاعتراف والصدق مع الذات. وهذا ما لا يتوفر كثيراً ويفضل الناس العيش في الوهم الطاغي، وهي صفة منتشرة في المجتمعات، فنجد الناس على مختلف شرائحهم المذكورة يتحدثون في مواضيع شتى، في السياسة والاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والطب والدين، ويفتون في كل الأمور، ونادراً ما يستخدمون عبارة لا أدري، مع أنها تمثل منجاة.

إن الممارسة الأخطر هي التجرؤ والحديث في السياسة، ويعتقدون أن نقل الأخبار وترديدها هو حديث في السياسة، وتكرار ما جاء في نشرة الأخبار من أحداث ولقاءات واجتماعات هو حديث في السياسة، ويتجرأ كثيرون بناء على معلوماتهم بالتحليل والتنبؤ بكل ثقة، كأن يقول أحدهم إن الحرب لن تقع في المكان الفلاني، أو أن العالم مقبل على أزمة في الطاقة وغيرها من الموضوعات التي يجزمون فيها، ويدّعي البعض امتلاكه مصادر خاصة، وهذا الأمر الأخير خطير جداً. وهم لا يعلمون أن الحديث في السياسة يعني الحديث في كل شيء، لأن الأمور كلها مرتبطة ببعضها، الطاقة والزراعة والغذاء والتكنولوجيا والمياه والذهب وأشياء أخرى مرتبطة بالسياسة، لهذا فإن اتخاذ القرار السياسي يأخذ في الحسبان كل ما ورد.

فالسياسة هي علم الممكن المستند إلى المعرفة والمعلومة والسيناريوهات والأفعال وردود الأفعال والجاهزية والجبهة الداخلية والقدرات الاقتصادية والانسجام المجتمعي، لهذا هنالك مستشارون مختصون في فروع المعرفة والأقاليم والدول والقرارات والتحالفات، هنالك مستشارون مختصون بكل دولة وتنظيم سياسي أو عسكري. والمستشار أشبه بالعالم المحيط بتخصصه وشيء من تخصص الآخرين.

أستغرب من أحاديث كثيرة تدور بين الناس بثقة كبيرة. وهذه الميزة كما أزعم موجودة عندنا نحن العرب أكثر من شعوب العالم، ويطلقون علينا أننا كائنات سياسية، وقد نكون كذلك، لكننا لسنا متخصصين في السياسة.

المجتمعات الأخرى خاصة الأوروبية والأمريكية يقول المواطن لك بكل سهولة وبساطة إنه لا يعلم، ولا يتحدث في السياسة أو الاقتصاد، قد يتحدث في تخصصه الجامعي أو ما بعد الجامعي، قد يتحدث في كرة القدم لجماهيريتها، لكنه لا يتحدث في الأدب والسياسة والتعليم إلا من زاوية تخصصه. قد يعتقد البعض أن الكلام يطير في الهواء فلنقل ما نشاء في أي شأن نشاء، فنحن نتسلى. لكنه لا يعلم أنه ينشر توقعات خاطئة أو معلومات مضللة. وأنا لا أطالب الناس بعدم التحدث في السياسة، على العكس، الحديث في السياسة هو حديث في الشأن العام الوطني، ولكن الحديث يجب أن يكون موضوعياً وحقيقياً كي نتجنب نشر الشائعات والأخبار الكاذبة، ونحافظ على الصفاء الاجتماعي والتمسك الداخلي. يمكننا ملء الفجوات الذاتية بالمعرفة والبحث عن الحقيقة والمعلومة والتزود بأساليب التفكير المنطقي، حتى نحقق التوازن الذاتي والإنساني.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/kwtdzm4p

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"