عادي

رفيقة الدرب

01:11 صباحا
قراءة 6 دقائق

محمد إسماعيل زاهر
الحقيبة حمل الإنسان، امتداد للجسد عبر اليد أو الكتف أو الظهر أو حتى الصدر والخصر، أو هي تتقاطع مع الجسد عندما كانت توضع في فترة من الفترات أسفل الإبط، لنقبض عليها بقوة بواسطة الذراع بأكملها، من نظرة نلتقطها عبر زاوية معينة، حيث تبدو الحقيبة هنا وكأنها تتقاطع مع هيئة الشخص.

الحقيبة كانت في الماضي بمثابة عقوبة الأطفال في مرحلة الدراسة الابتدائية، كنا نحشوها بالكتب والكراريس، فضلاً عن أدوات الكتابة: قلم..ممحاة..فرجار..مسطرة، أما الأم فكانت تضع السندويتشات بداخل الحقيبة الجلدية في أحد أقسامها أو جيوبها معزولة عن الكتب والكشاكيل..أتحدث هنا عن حقيبة تنتمي إلى الطبقة الوسطى من أبناء جيل فترة النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين، ولكل إنسان حقيبته التي تعكس طبقته ووضعه الاجتماعي وحتى شخصيته.

كانت هناك حقائب أخرى من قماش، يحملها أطفال الفقراء والعمال والفلاحين، مصنوعة من خامة كنا نطلق عليها «تيل نادية» كانت توزع بالمجان قبل العام الدراسي مع التموين الغذائي في الأنظمة الاشتراكية وشبه الاشتراكية، كان هذا القماش غريب اللون..يمتلك درجة بين الأبيض والأصفر، يقترب من زي المجانين كما كنا نراه في الأفلام القديمة، ويصنع منه أيضاً «المريول المدرسي» والذي كان يغلق بأزرار من الخلف، حتى لا يعبث الصغير فيها، وهو ما يتطابق مع ملابس المجانين، هل كانت هذه الأنظمة التعليمية تتعامل مع الأطفال بوصفهم فاقدي العقل؟ كان الطفل يمشي وهو عبارة عن كتلة لونية واحدة بائسة وممتدة تبدأ بالزي وتنتهي إلى الحقيبة، لم ينفر منها آنذاك إلا الحذاء، هل لذلك دلالة ما؟..ربما.

ثقل

جذبت الحقائب الأطفال إلى الأرض، فثقل محتوياتها يشد اليد الصغيرة دائماً إلى الأسفل، حتى الحقائب الجلدية لأبناء مساتير الناس كانت ثقيلة، مع نمو الطفل، ودخوله المراهقة، والتحاقه بالمرحلة الثانوية..كان حمل الحقيبة عاراً على الرجولة، وكذلك ارتداء المريول، لقد كبرنا أو عقلنا، لا فارق، لم نكن نحمل إلا مجموعة كراسات أو عدة كشاكيل في اليد، وتخلصنا من القلم الرصاص والممحاة..لقد نضجنا، ولم نعد نخطئ حتى نستخدم القلم الرصاص، نحن الآن نكتب بالقلم «الجاف» ونضعه في أحد جيوبنا، بعض الأطفال من أبناء الأثرياء والمدرسين كانوا يكتبون بالقلم الحبر ونظراً لتقاليدهم لم يتخلوا عن حقائبهم الجلدية، ولكنهم كانوا يحاولون تقليد البسطاء في تمردهم على ما يحملونه، وعندما كانوا يضعون القلم الحبر في جيوبهم كان السائل يتسرب منه ليلوث الملابس ويشكل بقعة لا تزول.

الحقيبة لا تزال ثقيلة برغم دخول «الآيباد» المدارس، ولكنها أصبحت موضوعة على الكتفين أو مجرورة عبر يد طويلة تفرد ليمسك بها الطفل ويتحرك أمام حقيبته، وليس بموازاتها، وكأنه يستبق نضوجه، هناك لهفة لكي يكبر، لهفة تخفي حزناً سيعرفه في ما بعد، هو يتعامل مع حقيبته كالمسافر، هذا الطفل لن يشعر بالفارق أبداً عندما سيرحل في يوم ما، لن يحس بصوت عجلات الحقيبة الذي كان يدوي في رؤوسنا ونحن على أهبة مغادرة الأوطان، صوت مختلف وكأنه يحفر بقسوة ليترك آخر علاماتنا في الأرض التي نتركها خلفنا، ولكنه في الحقيقة يحفر في قلوبنا وآذاننا صوت الذكرى والأسى.

يكبر هذا الطفل ويلتحق بالجامعة، ويدرك أن قلة من الطلبة يحملون الحقائب، قلة نظرت إليهم الأغلبية دوماً باستغراب، فالجامعة تحرر، لا يجب أن ينهم الشاب بأي شيء يقيده.

الحقيبة رفيقة الفتاة، لا تفارق البنت على مدار مختلف مراحل تعليمها، وعند بداية النضوج تنتقل حقيبة الطفلة من اليد إلى الصدر، تضم التلميذة المراهقة حقيبتها بين ذراعيها، تحضنها برفق وتسير بتؤدة إلى مدرستها الثانوية؟ هل تستعد لدور الأمومة؟ هل تفكر برقة في المقبل؟ فإذا كان التخلص من الحقيبة علامة الذكورة، فإن الحقيبة أنثوية بامتياز، هل تحتاج المرأة إلى شيء يضاف إليها دائماً؟ المكياج..الإكسسوارات..الوشم..الحقيبة.

لا توجد أنثى من دون حقيبة..الحقيبة رفيقتها في جميع الأوقات، الحقيبة تتجاوز الأفكار، فالمرأة المحجبة والمنقبة ومكشوفة الشعر..جميعهن يحملن الحقائب..كذلك الموظفة والعاملة..و إذا خرجت المرأة للتسوق السريع أسفل منزلها فإنها لا تحمل نقودها في جيوبها ولكن في حافظة نقود كبيرة نوعاً ما أشبه بالحقيبة الصغيرة..حقيبة الأنثى انهمام بالجسد والجمال والتفاصيل الصغيرة، ووضع حاجياتها المبعثرة هنا وهناك وأخذها معها في كل مكان..بعض حقائب النساء يحتوي على أشياء لا حصر لها..أدوات تجميل..عطور..إكسسوارات..مناديل..الخ.

حقائب النساء متعددة الأشكال، وتقتنيها المرأة وفقاً للموضة، ولها طريقة معينة في الحمل والوضع، فإحدى نصائح الإتيكيت توصي بعدم وضع الحقيبة على مائدة الطعام، هذا خطأ فادح، وإهانة لأصحاب البيت، وتوصي التعاليم أيضاً المرأة بحمل حقيبتها في يدها اليسرى حتى تستطيع السلام على الآخرين، ويجب أن تضعها مجاورة لها عندما تجلس عند الجهة اليمنى سواء على المنضدة أو على الأرض.

الحقيبة أيضاً نظرة وتقييم ومحاولة للتسلل إلى الشخصية التي تحملها، معظم البشر يتطلعون إلى حقيبتك في أعقاب النظر إليك، بعض الحقائب تثير التوتر، والبعض الآخر يدفعنا إلى السؤال إذا كانت تربطنا علاقة حميمية مع صاحبها، ولكن لا يوجد رجل يسأل امرأة عن محتويات حقيبتها، هي جزء منها.

تمرد

الحقيبة ثورة على التقاليد، من الوضع أسفل الإبط إلى اليد إلى الكتف إلى الخصر، في كل حالة هناك رمزية ورغبة في قول رسالة ما إلى الآخرين. الحقيبة السوداء المستطيلة والتي تتزين بالجلد في وجهيها توحي بالأهمية وربما الخطورة..الحقيبة التي توضع حول الخصر والمخصصة لجواز السفر والهاتف المحمول والنقود تعطي الانطباع أحياناً بأنوثة للمرأة، واللامبالاة وربما الميوعة عندما يستخدمها الشاب، حقيبة الكتف انطلاق وتخفف من الأدوار الرسمية، الحقيبة في العمل عندما نراها في يد المدير نشعر أن بداخلها أوراقاً مهمة ستحدد استراتيجية العمل ومستقبله، حقيبة الطبيب بائسة وتحمل ذكريات مؤلمة أو غير طيبة لنا جميعاً، هو يحملها فقط عندما يذهب لعيادة مريض لا يستطيع الحركة، حقيبة السباك أو الكهربائي تشعرنا بالسعادة فالمشكلة المنزلية على وشك أن تحل.

حقيبة السفر مدار آخر، هي وضع الاستعداد للرحيل بوعوده أو العودة بنجاحاتها وإخفاقاتها وما سرقه الزمن منا من سنوات، وتفكير فيما سنأخذه معنا، وتختلف أحجامها وفقاً لنوع ومدة السفر، البعض يتخفف من حاجياته، والبعض الآخر يقع في حيرة، وهناك من يكوم الأشياء جميعها داخل الحقيبة حتى تكاد تنفجر، نتوحد في مشاعرنا مع حقائبنا في السفر..هذه حقيبة فرحة وتلك تحمل خيبة الرجوع ومرارة الفشل، وهناك حقائب نعبّئ فيها تقييمنا لأصدقائنا وأهلنا وتقديرنا لهم بما تحويه من هدايا، ولذلك هي مثار فضول عندما نصل إلى البيوت فالكل يفكر بنصيبه فيها، هي تضم كذلك ما نود أن نظهر به أمام الآخرين لنقول لهم في صمت إننا نجحنا في سنوات عملنا أو استمتعنا وتسوقنا في رحلتنا السياحية. على باب المنزل، وفي بعض البلدان يحدد سائق سيارة الأجرة الذي سيأخذنا إلى المطار المبلغ الذي يريده نتيجة لعدد وحجم الحقائب.

شك

في المطار بعض الحقائب مثار للشك والريبة، وبعض الحقائب عندما تفتح حتى ولو لم تكن تضم أي محظورات نلمح في داخلها أشياء لا تخطر على بال..من مأكولات ومشروبات، البعض يحمل أجهزة ما داخل حقائبه حتى يهرب من الجمارك، هو يمارس لعبة الذكاء ويخاطر في الوقت نفسه، وتظل عينه متوترة تجاه حقيبته حتى تمر من أجهزة المراقبة،..بعض شركات الطيران تسمح بحقائب كبيرة نوعاً ما يأخذها المسافر معه على متن الطائرة، توضع في الأماكن المخصصة لها، ومع كل اهتزاز أو مطب هوائي يتناهى إلينا صوت ما يصدر عن تلك الحقائب التي توضع في خزائن أعلى رؤوسنا، صوت يحمل إلينا مشاعر متباينة. بعض شركات الطيران تسمح لرجال الأعمال والأثرياء بشحن جميع حقائبهم حتى الصغيرة المحمولة في اليد قبل السفر بفترة ما، فالحقيبة تدل دائماً على الوضع الطبقي.

عند الوصول يوجه من ينتظرك نظرته الثانية، بعد أن يحييك، إلى حقيبتك، ويحاول جاهداً أن يحملها عنك، فالحقيبة كانت ولا تزال عبئاً لابد أن نتخفف منه، ولكنه عبء ضروري، فمن دونه لا نكتمل.

اكتمال

الحقيبة رفيقنا الأساس في الانتقال من حال إلى آخر، أو من مكان إلى مكان ثان، ربما نضع فيها ما لا نحتاج إليه، ما يفيض عن حاجتنا أو ننسى أحد الأشياء المهمة أو الضرورية، في حضرتها يقفز سؤال: ماذا نسيت؟ فهي في كل الأحوال زادنا الذي لا غنى لنا عنه وبحث عن نقصان نسعى دوماً إلى إكماله.

اختفاء

حقيبة الصحفي لم يعد لها وجود..اختفت بفعل التطور التقني. وهو ما حدث مع حقيبة ساعي البريد والتي كان مرآها قديماً يحرك القلب بمشاعر شتى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y7ct2brx

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"