القطب المتجمّد اللبناني

00:23 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. نسيم الخوري

عندما كانت الأرض مغمورة بالمياه، كانت حركة الكائنات مائية، أي تسير بحريّة وسلاسة وهندسات غرائزية محفوفة بالتواصل والتقاتل، ومحفوظة بالتلاقح للتكاثر. وبعدما انحسرت المياه بثلثيها اللذين يغمران الأرض، أو الثلث اليابس بجباله الجليدية الشاهقة ووعورته، وقعت الكائنات كلّها في صراع شرسٍ أبدي، وراحت تزحف، وتجاهد، وتتقاتل، وتلغي بعضها بعضاً فوق اليابسة، بسبب صعوبة الحركة ومشقاتها، درءاً للجوع والإلغاء، وتحقيقاً لغريزة البقاء.

لنقل إن الإنسان كان الأذكى والأشقى فوق الأرض، لكنّه هام مسكوناً بالموت تفترسه جرثومة لا تُرى من طراز «الكوفيد» مثلاً، التي قلبت العيش في الدنيا.

أنسج هذه المقدّمة للتنبيه الى كوارث انتقال السلطات في القطب المتجمّد اللبناني، إذ يُخاطب الناس الأجنّة في أرحام أمهاتهم بالقول: «أبقاكم الله في مائكم الأوّل».

ويشتدّ تلوّي اللبنانيون فوق اليباس السياسي الطائفي العام المتقاتل والمتشظي بالطلاق، وهجرة الشباب، وبؤس العائلات ويأسها، والعجز عن دفن ضحاياهم ومعالجة مرضاهم ومحاصرتهم بالفقر والجوع وعصابات التهريب والسرقات والتشليح المتنامية، وحوادث السير اليومية المرعبة، وحصر المعونات والتبرعات والعطاءات الدولية بالجمعيات المتعددة المتنوعة التابعة بمعظمها للأحزاب المذهبية إيّاها، متجاهلين مسارب توزيع غلالها، بينما يتلوّى «أسياد» الجمهورية المتلاشية ببرك السجالات في الشاشات والمواقع (تصوّروا أن عدد المواقع الإخبارية تجاوز ال1006 في لبنان)، في تفسير دستور الطائف الذي لم ينص مثلاً لا على المهلة المعطاة لرئيس «الجمهورية» الماروني بإعلان اسم رئيس الحكومة وتكليفه رسمياً بعد الاستشارات البرلمانية، ولا على المهلة الممنوحة للرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة بالتشاور والتنسيق مع رئيس الجمهورية. والسؤال الخلافي الأكبر هو: هل يحقّ لحكومة تصريف الأعمال الحالية، برئاسة نجيب ميقاتي، دستورياً، تسلّم سلطات رئيس الجمهورية ميشال عون المنتظر أن يغادر قصر بعبدا بانتهاء ولايته منتصف ليل 31 نوفمبر/ تشرين الثاني، أم لا؟

يروي الرئيس السابق للبرلمان، حسين الحسيني، موضحاً أن مداولات الطائف وتقاريره ووقائع جلساته التي حجبها وكمّمها عن الأجيال اللبنانية المستقبلية من دون وجه حق، لم تهمل أبداً «المعضلتين» المذكورتين في الصلاحيات، بل تمّ الاتفاق شفهيّاً على مهلة أربعة أسابيع، و10 أيّام اجترحناها من قاعدة الطلاق لدى المسلمين، إذ بعد ان يُطلّق الزوج زوجته ثلاث مرات، لا يمكنه استرجاعها إلا بعد زواجها من آخر، قياساً على إيفاء العدّة الشرعية، ما أثار جدلاً واجتهادات في مدينة الطائف لم تفض إلى نتيجة مكتوبة، لأنّ رفيق الحريري قبل أن يكون رئيساً للوزراء اعتبر الاجتهاد تقييداً لصلاحيات رئيس الحكومة المقبل.

تصوّروا هذا الشلل الدستوري الذي جعلهم رهائن الخارج بانتظار مؤتمر عربي بإيحاءات دولية تُخرجهم من هذه الأنفاق المتجمّدة عبر تعديل الدستور، وإلاّ السقوط في الفوضى، ولربّما تجدد الحروب الأهلية، ونسف الدستور من أساسه. أضف إلى ذلك، أنّ الصراع الماروني قوي، وثقيل جدّاً بين المرشّحين الكثر لكرسي بعبدا، في مرحلة فُتحت وفقاً للدستور، لكنّها شديدة الخطورة، لأنهم تشظّوا قبل غيرهم في أرجاء الداخل والخارج المتنوع، وباتوا ورقة ضعيفة بعدما كانوا الزاوية عبر الدعامات السياسية الإقليمية والدولية، وهم يمعنون لاواعين في تهشيم كرسي بعبدا، في أزمنة المتغيرات السلطوية عبر تقدم الثنائيات والثلاثيات والتكتّلات الحزبية تضافرها بقايا الأحزاب الصغيرة المترهلة.

ننتظر النجدة في «جمهورية» طيّف أسيادها دستور الطائف ثمّ طوّفوه ليحُشروهم في ال2008 متنافرين «دوغما» بطائرة نحو الدوحة، ويعودون باتّفاق أجهض بعض ركائز اتفاق الطائف، محكوماً بالإهمال والتجاوز والتعثر الوطني، لتبقى «الجمهورية» مستوردة مشلولة، كأننا نعيش فعلاً بلا دستور، وأياً كان يتطاول متجاوزاً حدوده وصلاحياته ومقامه وتأثيره بالاستناد إلى جمهوريات الأحزاب الطائفية «الأقوى والأنقى» طبعاً بين قوسين.

لبنان واقع في فجوة تتجاوز حجمه وجحيمه، وأرى اتّفاق الطائف اليوم، كما سبق واختصره الصديق الرئيس الدكتور سليم الحص «مشابهاً لدستور الإيمان، إمّا أن نكون معه أو ضدّه»، ولهذا سيبقى اللبنانيون، على الأرجح، خصوصاً الموارنة، هائمين في الأمم لا يحلمون لا بوطن خاص، ولا بدستور جديد، بل بمروحة من الصلاحيات القديمة الواسعة التي أضاعوها واستهلكت مع الدستور الأول الذي أكلته الحروب، الداخلية والخارجية. إنّهم يتزاحمون مجدّداً على كرسي (سنتناولها قريباً)، كأنهم بانتظار غودو الذي لن يأتي لتكسير جبال الجليد في ما بينهم، ولذا نراهم مع غيرهم في ردهات المطار الذي تسكنه، للأسف، فضائح نتف الريش ب«الدولار فريش» لمليوني ونصف مليون مصطاف، غادروا تماماً مستائين كما «الصيصان الحلوين».

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2yy9s69s

عن الكاتب

دكتوراه في العلوم الإنسانية، ودكتوراه في الإعلام السياسي ( جامعة السوربون) .. أستاذ العلوم السياسية والإعلامية في المعهد العالي للدكتوراه في الجامعة اللبنانية ومدير سابق لكلية الإعلام فيها.. له 27 مؤلفاً وعشرات الدراسات والمحاضرات..

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"