براءة المحتوى

00:39 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

إذا كان العلم يزوّد الإنسان بمعلومات تمكنه من التعامل مع محيطه من بشر وطبيعة بنسبة مقبولة تجعله يعيش بسلام أو ضمن تفاهمات عامة، فإن المعرفة تزوّد الإنسان برؤى تعينه على التمييز وتجاوز الأخطار والتغلّب عليها، إضافة إلى استنتاج العبر والأفكار والحكمة من الماضي ليفهم إشكاليات الحاضر وحيثياته، ويضع تصوّراً لسيناريوهات مستقبلية.

والعلم كمعلومات لا يختلف عن المعرفة كضرورة، لأنه جزء منها ومؤسس لها، لهذا تنتقي الجهات المعنية المناهج التعليمية المتطورة والمتقدمة، وتعمل على تقييمها بين فترة وأخرى وتقوم بتعديلها أو تغييرها إذا اقتضت الحاجة، مع المحافظة على الخطوط الرئيسية وإضافة ما تتطلبه المرحلة أو العصر، وتضمين الفتوحات العلمية، تمهيداً لتحويلها إلى معرفة.

لقد انتهى عصر التلقين وحلّ محله عصر الفهم والوعي، وبذلك دخل الإنسان المعاصر عصر المعرفة بشكل أسرع من إنسان القرن الماضي على سبيل المثال، وأصبح مطالباً بتقديم فهم مغاير للقضايا العامة، وعدم قبول ما يصل إليه إلا بعد توظيف معرفته، أي قدرته على التمييز بين الحقيقة والوهم، وبين المعقول واللامعقول، وبين الممكن واللاممكن، وبالتالي نبذ محاكمة كل ما يصل إليه.

الإنسان المعاصر في حاجة ماسة اليوم لتوظيف معرفته واستخدام المنهج العلمي أكثر من أي وقت مضى، في قراءة المحتوى الإعلامي والثقافي والفني والسياسي والتاريخي والمعرفي، نظراً لتدفّق المعلومات من كل حدب وصوب، جراء انتشار الشبكات العالمية للمعلومات، بكل اللغات، وعليه التدقيق بها والبحث في مصداقيتها ومصادرها، حتى لا يقع ضحية لمروّجي الإشاعات والأخبار والقصص، وأن يضع علامة استفهام أمام كل ما يمر عليه من محتوى، إن في وسائل الإعلام أو التواصل الاجتماعي أو حتى الكتب، خاصة أن المعلومة وجزءاً كبيراً من المعارف، باتا يُقدّمان في قوالب مغرية وجذابة تسحر العيون وتتلاعب بالمخيلة.

المحتوى البريء لم يعد موجوداً في حياتنا المعاصرة، أي في عصر ثورة الاتصال وتكنولوجيا المعلومات والتطبيقات والذكاء الاصطناعي و(الأنميشن)، وباتت هذه الأدوات تشكل أوعية يضخّون فيها دماء خبيثة وحميدة، معلومات بريئة ومدسوسة. وتستخدم هذه الوسائل كبريات أجهزة المخابرات، والأقسام الإعلامية للتحالفات، ولا نبالغ إن قلنا إنها باتت خطوط الاستطلاع المتقدمة في الجبهات، وهي الممهّد لأي خطط أو استراتيجيات أو برامج عابرة للقارات، وتجعل الناس يعيشون في ارتباك نفسي ومادي ومعلوماتي وقيمي، قبل تنفيذ السياسات وتحقيق الأهداف، بل أحياناً تتمثّل الأهداف في تحقيق الارتباك وتعميقه.

الأسرة معنية تماماً بما سبق، وترتكب مغالطة كبيرة وربما حماقة في حق أطفالها حين تختار «الآيباد» ليحل محلها في تهدئة الطفل، سيما الشريحة التي بدأت بالذهاب إلى المدرسة، لأن المحتوى الترفيهي أصبح مادة دسمة لتمرير الثقافات والمعتقدات وأنماط العيش الاجتماعي والسلوكي والعاطفي، ولعل أسراً عديدة اكتشفت مشاهد غير لائقة في قصص الرسوم المتحركة والألعاب الإلكترونية، يشاهدها الأطفال في صمت ويخزنونها في لا وعيهم، وقليلون منهم يتوجهون لأولياء أمورهم للاستفسار، ومنهم من يتندّر عليها مع زملائه ضمن وعي عاطفي متقدّم يتحلّى به هذا الجيل. ولا يقتصر الأمر على المعرفة المشبوهة والمريبة، إنما يتجاوزونها نحو تجميل العنف، وما السلوك العنيف لبعض الأطفال إلا نتيجة للمحتوى الدموي غير الإنساني.

هنالك اعتراف حقيقي بصعوبة التربية تشكو منه أمهات كثيرات، ناهيك عن الإدمان الإلكتروني لغالبية الأطفال قبل دخولهم المدرسة وبعده.

المعرفة المجانية خطرة جداً في مجتمعاتنا العربية التي لا تصنع المحتوى وإنما تستورده على علاته، من دون تمحيص وتدقيق ومراقبة، ومن دون دراسة مناسبته للبيئة والمجتمع. ونحن هنا كمربين ومفكرين نعترف بصعوبة مواجهة هذه التحديات، لكن الصعوبة لا تنفي توظيف معارفنا الأصيلة لمواجهة محتوى الآخر، والحديث ذو شجون.

[email protected]

 

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5bbc2z3t

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"