مدن مظلمة

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

لا يحضرني، الآن، اسم أحد الساسة العرب الذي قُدّر له العيش في ألمانيا في بدايات خمسينات القرن الماضي أو حتى قبل ذلك، حيث قصدها للدراسة، وقد أشار هذا الرجل إلى ذلك في مذكراته التي قرأتها قبل سنوات طويلة. وما أذكره أنه أتى في تلك المذكرات على أن ألمانيا التي جاءها وهي مقسمة، ومنهكة من الحرب العالمية الثانية الضروس التي انتهت بهزيمتها، كانت تعاني بنية تحتية مدمرة، وضعفاً في الخدمات، ومما قاله أن الشوارع كانت في الليل مظلمة بلا إنارة تذكر، حيث كانت شبكات الكهرباء  يومها  ضعيفة.
تذكرت هذا، وأنا أقرأ تقريراً طازجاً عما تركته، وستتركه، أزمة الطاقة الراهنة في أوروبا، على خلفية الحصار الذي فرضه الغرب على روسيا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا. ويتحدث هذا التقرير عن الوضع في المدن الألمانية تحديداً، مع معرفتنا أنه ليست ألمانيا وحدها هي التي لجأت إلى تقنين استخدام الطاقة جراء ذلك. 
ومن التدابير التي اتخذتها ألمانيا مثلاً، إطفاء الأضواء الليلية في المعالم السياحية والأثرية والمباني البارزة كالمتاحف والمكتبات، حتى إنه في العاصمة برلين وحدها، صار نحو 200 معلم في المدينة، بما في ذلك عمود النصر، وكاتدرائية برلين، دون إضاءة بعد غروب الشمس.
هل ستعود أوروبا إلى الظلام ليلاً؟، وهي التي كانت مدنها وبلداتها، وربما قراها أيضاً، غارقة في الأضواء الليلية، وكيف يمكن لمن ألفوا كل هذا الكم الهائل من الضوء الليلي أن يعتادوا على العيش مجدداً في مدن بأضواء خافتة محدودة، أو حتى بدونها كلية، علماً بأن كل هذا جرى دون أن تكون هناك حرب بضراوة الحروب التي عرفتها أوروبا في القرن الماضي!
غاية مَن وضعوا التقرير لم تكن شرح ما يجري في الواقع اليوم، فعلاً، وإنما «تزيين» العيش في الظلام. فجأة تذكرت أوروبا الفخورة بأنوارها، وبمساحات الإعلان الضخمة في الشوارع التي تروج للسلع والبضائع والمنتجات على لوحات تبرق منها أضواء النيون، أن إطفاء الأنوار يساعد على التقليل من تلوّث الهواء، ويحمي المناخ، وأن وقف تشغيل هذه الإضاءة غير المجدية سيوفر 3 مليارات دولار سنوياً.
هبْ أن ذلك صحيح، ولكن لمَ لم يجر تذكّره إلا الآن؟
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/32as4rpv

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"