هل تستفيد دول المنطقة من التحول الحاصل في جغرافية الصناعة؟

21:59 مساء
قراءة 3 دقائق

د. جاسم المناعي *

إن أزمة الطاقة التي يمر بها كثير من دول العالم، وخاصة دول المجموعة الأوروبية، لا تبدو بأنها أزمة مؤقتة بل إنها أزمة قد تمتد لفترة طويلة إن لم تكن تمثل أزمة دائمة.

من ناحية لم يعد في إمكان الدول الأوروبية الاعتماد على روسيا لاستيراد الغاز وموارد الطاقة الأخرى وذالك على ضوء التجربة المريرة التي تعيشها أوروبا منذ اندلاع حرب أوكرانيا حيث إن روسيا لم تعد تمثل لدول المجموعة الأوروبية مصدراً موثوقاً فيه لسد حاجتها من موارد الطاقة. من ناحية أخرى فإن أسعار الطاقة في دول أوروبا وفقا لذلك سوف تشهد تصاعدا مستمرا نتيجة لشح توفر موارد الطاقة من مصادر أخرى وكذلك نتيجة لعدم تمكن دول المجموعة الأوروبية من الاستغناء عن الطاقة الضرورية لحاجتها اليومية وكذلك لعمل وتشغيل كثير من صناعاتها وخاصة تلك كثيفة الاستخدام للطاقة. وحسبما يبدو فإن مصير هذه الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة سوف يتأرجح بين خيارين أحلاهما مر. الخيار الأول هو أن بعض هذه الصناعات على الأقل لن تتمكن من الاستمرار نظراً للنقص الحاد في توفر الطاقة أو نظرا لعدم توفر الطاقة بنفس الأسعار التي اعتادت هذه الصناعاتالحصول عليها. وفي كلتا الحالتين فإن اقتصاديات هذه الصناعات لم تعد مجدية وفقا للظروف المستجدة. اما الخيار الآخر في حالة رغبة هذه الصناعات في البقاء والاستمرار فيتمثل في الانتقال الى مناطق جغرافية آخرى تتوفر لديها موارد الطاقة بتكاليف تنافسية. وهنا يأتي دور دول منطقة الخليج كمرشح لاستقطاب مثل هذه الصناعات. هذا وقد سبق لدول المنطقة وأن برهنت على قدرتها في تبني مثل هذه الصناعات حيث أن كل من صناعة الالمنيوم أو صناعة الحديد أو صناعة البتروكماويات قد نجحت في كل من البحرين والامارات على سبيل المثال لا الحصر وذالك اعتمادا على نفس المنطق وهو توفر موارد الطاقة في هذه البلدان بتكاليف معقولة وتنافسية. أن الظروف الدولية الحالية تتيح لدول المنطقة الفرصة من جديد للتوسع في مثل هذه الصناعات وتحقيق مكاسب عديدة على صعيد تنويع مصادر الدخل ونقل التكنولوجيا وزيادة الدخل القومي وتوفير مزيد من فرص العمل للايدي العاملة الوطنية هذا اضافة الى استقطاب الاستثمار ورؤوس الاموال الراغبة في الدخول في هذا المجال. أن الصناعات كثيفة الاستخدام للطاقة كاالامنيوم والحديد والبتروكماويات لها مزايا آخرى تفوق ما تم ذكره حيث أن هذه الصناعات لها القدرة على خلق صناعات آخرى مرتبطة بها عموديا وافقيا في شكل سلاسل من التجمعات الصناعية. ولكي تتمكن دول المنطقة من اقتناص مثل هذه الفرص ينبغي تبني سياسة صناعية متكاملة في هذا الخصوص قائمة على تشريعات واضحة وشفافة خاصة في مجال تسعير الطاقة ونقل التكنولوجيا والاستثمار الاجنبي والتحرك وفقا لذلك لتسويق مثل هذه السياسة خاصة لدى بعض الشركات العالمية المتخصصة في مثل هذه الصناعات والتي قد تكون تفكر في نقل صناعاتها إلى مناطق أخرى من العالم بسبب ندرة وارتفاع تكاليف الطاقة في بلدانها. ولابد في هذه الحالة من اتباع سياسة مرنة مع هذه الشركات إذا رغبنا في استقطابها حيث إن لدى هذه الشركات سجلاً وخبرة طويلة وغنية في هذا المجال، ولذا لا ينبغي أن نتوقع أن تقبل هذه الشركات بأية شروط بل يجب ان تكون الشراكة منصفة ومنطقية حيث ينبغي الاستفادة من هذه الشركات في مجال الادارة الصناعية وفي مجال التطوير والأبحاث والتسويق على أن تساعد هذه الشركات في تدريب الكوادر الوطنية وتسهم في تطوير القطاع الصناعي المحلي ونمو الاقتصاد الوطني. خلاصة القول أن هناك حاليا تطورات جغرافية جديدة ليست فقط على الصعيد السياسي بل أيضا على الصعيد الاقتصادي والصناعي على وجه التحديد وقد تمثل مثل هذه التطورات فرصاً لدول المنطقة تتطلب سرعة التحرك والتموضع على الخريطة الاقتصادية والصناعية العالمية. هل نشهد تداعيات ايجابية لهذه التطورات؟ نأمل أن يكون ذلك في مصلحة دول المنطقة.

* الرئيس السابق لصندوق النقد العربي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/b5tsfrku

عن الكاتب

​المدير العام رئيس مجلس إدارة صندوق النقد العربي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"