فشل مهرجاني

00:54 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

بداية، لست ممن يرون أن الفن يبدع بقرار، وإنما هو انعكاس طبيعي ومنطقي للمجتمعات، ومنحى تطور وعيها وثقافتها. وبالتالي استغربت من قبل، قرار نقابة الموسيقيين في مصر منع بعض المغنين المعروفين بوصف «مطرب مهرجانات» من الغناء في حفلات عامة. وللأسف كانت معرفتي بذلك من وسائل الإعلام التي صورت الأمر وكأن النقابة بيدها أن تسمح وتمنع الغناء والموسيقى، لأعرف بعد ذلك أن النقابة تعطي تصاريح للحفلات العامة لأعضائها فقط، وغير أعضائها لا يحصلون عليها (هي إذاً جهة تنظيم إجرائي وليست وصية على الإبداع كما صورها الإعلام).

وربما من السذاجة تخيّل أن أحداً يمكنه المنع والمنح في زمن سهلت فيه التكنولوجيا عملية الانتشار والوصول إلى الملايين في لحظة، ربما من دون أي كلفة تقريباً. فضلاً عن أن الفن إبداع، ولا يقتل الإبداع سوى القيود. فالشاعر لا يبدع بقرار، والموسيقي لا يبدع بالالتزام بقواعد الدراسة والمهن فحسب، وكذلك المغني ما لم يطور من أدائه حسب إمكاناته لا يطرب.

بالطبع، هناك أصول لكل فن من لا يتعلمها ويملكها ويبدع على أساسها لا يكون إنتاجه فناً بالأساس. فالشاعر الذي لا يعرف اللغة أو عروض الشعر، حتى لو تجاوزها إبداعاً، يموت ما ينتجه، لأن من يتذوق الشعر لا يجده شعراً. كذلك الحال في الموسيقى والطرب، من لا يعرف مقامات الموسيقى وطبقات الأصوات لن ينتج سوى نشاز تعافه الآذان، مهما تضمن من إثارة مفتعلة.

في الأيام الأخيرة نجح جمهور مدينة الإسكندرية بمصر، في إفشال إقامة حفل لممثل يؤدي أغاني مهرجانات. واستخدم البعض بعفوية وسائل التواصل للترويج لحملتهم بمقاطعة الحفل، فاضطر منظموه إلى إلغائه بعدما لم تبع التذاكر. وقبل ذلك بأيام، أقبل جمهور الإسكندرية بكثافة، على حفل لمطرب مصري من الجيل الوسيط، معروف بصوته الجيد وإتقانه لفنه وإبداعه المستند إلى الأصول الموسيقية السليمة.

هذا في تصوري هو النموذج الأمثل للتعامل مع الفن والإبداع بشكل عام: لمن يريد أن يبدع فليفعل، ويترك الحكم على ذلك للناس أن تقبله أو تعافه. أما تطوير وعي وثقافة وذوق الناس، فتلك مسألة أخرى لا يمكن استخدامها شماعة لإجراءات «قمع فني»، إذا جاز التعبير.

ما يخشاه المرء، هو بعض مدّعي «التنوير» و«اللبرلة» وما شابه بشكل غير أصيل، وإنما بانتهازية نفعية بغية الشهرة، أو لعب دور جماهيري لا توفره لهم حتى ثرواتهم الكبيرة. والأخطر هنا، هو الإعلام في زماننا الحالي، الذي يزايد على هؤلاء المدعين للفضيلة وتشجيع الإبداع. بل إن الخطر سيكون أن يحاول البعض تسييس الأمر، واتهام جمهور مدينة الإسكندرية بأنه متأثر «بمد سلفي» قوي لذا رفض حفل الممثل وحقق الفشل المهرجاني (أي لأغاني المهرجانات).

والخطر هنا مزدوج، فمن ناحية هو يتهم جمهور بالملايين أنه يتعامل مع الفن كالقطيع المدفوع من جماعات سياسية/دينية، وبالتالي هو لا يتذوق الفن ولا يطرب للتيارات الجديدة والمبدعة فيه. ومن ناحية أخرى هو يعطي لتلك الجماعات المتطرفة أهمية ليست حقيقية، بل يزيد من دون أن يقصد من اهتمام الناس بها واعتبارها «حارسة للفضيلة والفن الرفيع»، وتلك كارثة حقيقية، فهذه الجماعات تعادي الفن والإبداع، وأغلب النشاط الإنساني الراقي بشكل عام.

علينا أيضاً الاعتراف بأن أغاني المهرجانات منتشرة بقوة، بغض النظر عن كون ذلك في حفلات رسمية، أم لا. وكلما ركز الإعلام على انتقادها انتشرت أكثر. ولعل السبب الرئيسي في انتشارها هو أن الإبداع الآخر – الذي يعتبره منتقدو المهرجانات فناً رفيعاً يرقي ويشذب الذوق الجماهيري العام – يتراجع. ففي الوقت الذي انتشرت فيه «أغاني القاع» في بدايات القرن الماضي، انتشرت أكثر وطغت موسيقى مبدعة و«أغان راقية» طوّرها مبدعون يدركون مزاج الجمهور.

فلنركّز على الإبداع الذي نعتبره فناً وليس مهرجاناً، ونعمل على انتشاره ليأخذ نصيباً من سوق فن المهرجانات الذي أصبح ليس قاصراً على الغناء، للأسف.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4nrx9dvj

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"