أيام الاستنزاف.. شهادة خالد عبدالناصر

00:15 صباحا
قراءة 4 دقائق

عبدالله السناوي

«لم يقل لنا شيئاً قبل أن يغادر المنزل لتسجيل خطاب التنحي في كوبري القبة يوم 9 يونيو 1967. عاد للبيت قبل إذاعة الخطاب، ودخل غرفة النوم وقطع الاتصالات به.. لم يستجب لأية نداءات وضغوط، معتقداً أنه المسؤول الأول عما حدث، ولا بد أن يرحل».

«في صباح اليوم التالي ١٠ يونيو/حزيران جلس بملابس غرفة النوم، بيجامة كستور مقلمة، على مائدة الإفطار. لم تكن عادته طوال السنوات الماضية أن يتناول وجبة الإفطار معنا. ربما تصور أنه قد لا تتاح له فرصة مرة أخرى للجلوس مع عائلته.. لم نتحدث في شيء.. كلمات قليلة ثم يعود الصمت».

«الصوت الوحيد المسموع هدير مئات الآلاف التي حاصرت البيت منذ إعلان قرار التنحي. لم يتحرك من مكانه، ولا حاول مرة واحدة أن يُلقي نظرة على الجموع المحتشدة، كان يشعر بأنه خذلهم، وكان شعوره عميقاً بالمسؤولية».

«وقفت في شرفة حجرتي أتابع المشهد المهيب في الشوارع المحيطة، قلت: بابا الناس عاوزاك. قال بلهجة أدرك معناها، ويدرك معناها كل من تعامل معه عندما يحزم أمره على شيء: «مالكش دعوة» قطعت أمي صمت المائدة بعبارة ما زالت تدوي في وجداني.. تحدثت باسم أولادها - باسم العِشرة الطويلة - باسم الحب الكبير للرجل والإنسان الذي لم يعد رئيساً، ولا يدري أحد أي مصير ينتظره هذا المساء: «إحنا معاك على الحلوة والمرة».. لم يعلق ولم يجرؤ أحد من أشقائي على التعليق».

«عندما خرجت الجماهير بالملايين في شوارع القاهرة تطالبه بالبقاء وتعرض المقاومة، سأل هيكل مستغرباً وحائراً: ليه؟»

كان يتصور أن الناس سوف تخرج لتنصب له المشانق في ميدان التحرير، فإذا بها تهتف باسمه في شوارع القاهرة، والمشاعر كانت على النحو نفسه في كل مدينة وقرية مصرية وكل بيت عربي.

تدافعت الأحداث بسرعة، ولم يعد أمام الرئيس خيار، فأمر الشعب لا يرد، كما قال في خطاب العودة الذي ألقاه أنور السادات في مجلس الشعب.

«ذات يوم من عام ١٩٧٠ كنا على مائدة غداء. لسبب ما قلت: مضت ثلاث سنوات.. كنت أتحدث في موضوع شخصي.. التفت تجاهي، قال كأنه يحادث نفسه: ثلاث سنوات. كانت هذه السنوات قد مضت على النكسة. لم ينس أبداً جرحه النازف».

«تعودت أن أنظر في عينيه صباح كل يوم. لو وجدتهما حمراوين أعرف على الفور أن الليلة الماضية شهدت عملية عبور في حرب الاستنزاف.. لم يكن ينم حتى يطمئن على عودة مقاتلينا سالمين». «كنا نشاهد مع شقيقي الأصغر عبدالحكيم فيلم كرتون. مر علينا وجلس معنا. بدا على ملامحه القلق كأنه ينتظر خبراً خطيراً.. فجأة دخل أحد أفراد قوة الحراسة. مال عليه هامساً.. قام متوجهاً لمكتبه.. بعد قليل عاد إلينا والبشر يملأ وجهه للمرة الأولى منذ النكسة: دمرنا إيلات».

«قال لي ذات مرة أثناء سنوات الاستنزاف: تصور أن الذين يجتازون الكشف الطبي في الكليات العسكرية ٤% فقط. ده من مواريث الاستعمار والطبقية والفقر الطويل. اهتممنا بالتعليم والصحة وتوفير الاحتياجات الأساسية. ما زلنا في حاجة إلى جهود أوسع».

«بقميص أزرق وبنطلون شارك في إحدى المناورات العسكرية. سأل جندياً في خندق: أنت قاعد هنا ليه؟ قال الجندي: ما أعرفش يا افندم. قالوا لي اقعد هنا! ثار ووبخ بشدة قائد المناورة: إنتوا بتعملوا عليَّ تمثيليات. العسكري كان هنا ليه؟ أصدر أوامره بإنزال عقاب على قائد المناورة، اعتقاداً أن التدريب الصعب يجعل المعركة سهلة، وأن الهزل لم يعد مسموحاً به في إعادة بناء القوات المسلحة».

«في 9 مارس 1969، استشهد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة على جبهة القتال الأمامية. كانت صدمة عبدالناصر باستشهاد رياض صاعقة. كانت ثقته في كفاءته العسكرية بلا حدود.. بإرادة المقاتلين ودماء الشهداء تغيرت مصر ونفضت ثياب الهزيمة. وهو المعنى الذي التقطته مئات الألوف التي خرجت تودع رياض في جنازة مهيبة اخترقت ميدان التحرير».

أصرّ الرئيس أن يتقدم صفوف الجنازة، وتحدي إجراءات الأمن، أزاح رجال الحراسة، وذاب وسط الجماهير.. الأمن أصابه الهلع يومها. اقترب أحد ضباط الحراسة منه بصعوبة شديدة: «يا فندم كفاية كده».

نهره عبدالناصر، ومضى في الجنازة حتى نهايتها، متأثراً بهتاف الشعب: رياض مامتش. والحرب لسه مانتهتش».

«قبل الرحيل بأسابيع قليلة خطر لأمي أن تسأله: خالد حيتخرج السنة الجاية، وأنا عارفة إنك حتبعته للجبهة الأمامية.. قال أبي: أيوه يا تحية».

كان تقديره أن الواجب الوطني يقتضيه أن يدفع بابنه لخطوط القتال الأمامية، وفي أول نقطة مواجهة مع إسرائيل. فماذا يقول الناس إذا دفع بأولادهم لخطوط القتال الأمامية، وأعفى ابنه من ضريبة الدم.

«أمي كانت تدرك، عن يقين، أنه سوف يدفع بي لخطوط القتال الأمامية. قالت لي فيما بعد: أنا عارفاه».

كانت تلك بعض أجواء أيام النكسة وحرب الاستنزاف في بيت منشية البكري كما رواها لي صديقي الراحل الدكتور خالد عبدالناصر ونشرت لأول مرة على صفحات جريدتي «العربي» و«الخليج» منذ نحو عشرين عاماً.

أهمية الشهادة في قدر ما تكشفه من جدية فائقة سادت مصر تصحيحاً لأوضاع القوات المسلحة حتى يكون النصر ملك شعب عرض المقاومة في لحظة الهزيمة.

كانت حرب الثلاث سنوات، التي يطلق عليها «حرب الاستنزاف»، البروفة الحقيقية والكاملة لما جرى في أكتوبر 1973.

تجاهل الاستنزاف تجهيل بأكتوبر.. هذه حقيقة عسكرية وتاريخية لا يصح بأي معيار وطني وتحت أي ظرف إنكارها أو التشكيك فيها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrj9f2pk

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"