خريطة جديدة تتشكل

00:17 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

لا أوجه للتشابه بين بدايات الأحداث الكبرى ونهاياتها، وعندما يكون الحدث حرباً، فإنها تبدأ ولا تنتهي إلا وقد غيّرت كل ملامح الأرض التي تدور عليها، فالحرب قرار يتخذه فرد أو عدة أفراد، ولكن نهايتها لا تكون بيد هذا الفرد ولا المجموعة المحيطة به؛ بل بيد أطراف مختلفة تتجاوز الطرفين المتحاربين. والحرب الروسية الأوكرانية لم تغير فقط ملامح الأرض التي تدور عليها ولكنها غيّرت ملامح العالم، وقد تسفر عن خريطة جديدة للكوكب تختلف شكلاً ومضموناً عن الخريطة التي نعرفها اليوم في الجغرافيا السياسية.

بالنسبة لأوكرانيا، تبدلت ملامحها وحل الخراب والدمار في مدنها وحقولها، واستقطعت القوات الروسية من أراضيها ما يضمن حماية أمنها القومي حسب التصريحات الصادرة عن موسكو، وفي نفس الوقت فقد الطرفان المتحاربان الآلاف من جنودهما، وفقدت أوكرانيا الملايين من مواطنيها ما بين قتلى ولاجئين إلى دول مختلفة.

ملامح الحياة والجغرافيا لم تتغير في أوكرانيا وروسيا فقط؛ بل تغيرت على الكوكب بكامله، بعد أن ارتفعت الأسعار، وازداد عدد الجوعى، وأصبحت أغلبية البشر في كل ركن على الكوكب تعاني ارتفاع تكاليف العيش، وعدم توافر المواد الغذائية والنقص في مصادر الطاقة، ما أعاد الكوكب سنوات؛ بل عقوداً إلى الوراء.

الحرب المندلعة منذ ما يقرب من ثمانية أشهر لا يلوح في الأفق أي أمل أن تضع أوزارها في المدى المنظور؛ بل لا تظهر في الأفق سوى سحب وغيوم قاتمة بأنها ستتمدد وتتسع، ويمكن أن تطال شظاياها أي بقعة على الكوكب، وذلك بعد أن ارتفعت وتيرة التهديد والوعيد المتبادل بين روسيا من جهة، والولايات المتحدة، والدول الغربية من جهة أخرى.

جمعت أرض نيويورك قبل أسابيع عدداً كبيراً من الرؤساء وصناع السياسة العالمية، وبدلاً من أن تكون اجتماعات الدورة ال77 للجمعية العامة للأمم المتحدة، فرصة لطرح مبادرات وحلول لوقف الحرب التي تقض مضاجع البشرية، كانت المنظمة الأممية منبراً للتصعيد والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور من قبل الرئيس الأمريكي جو بايدن، رداً على خطاب بوتين الذي أعلن خلاله التعبئة العامة واستدعاء 300 ألف جندي من الاحتياط، وألمح إلى إمكانية استخدام السلاح النووي، وهو الأمر الذي أعلنه تصريحاً بعد بوتين، عدد من المسؤولين رفيعي المستوى.

بوتين أثبت للعالم أنه إذا قال فعل، والكل يعي أنه أشعل هذه الحرب لينتصر، وأن الهزيمة تعني سقوطه وسقوط روسيا، وهو ما لن يقبله، وسيستخدم المشروع وغير المشروع لتحقيق أهدافه حتى لو كلّف ذلك إشعال حرب عالمية لا تُبقي ولاتذر. وبعد الانتصارات التي حققها الجيش الأوكراني واستعادته لمدن وقرى بفضل أسلحة أمريكية متطوّرة ودعم غربي كامل، كانت قراراته بالتعبئة العامة واستدعاء الاحتياط، وعرض الجنسية على من يقاتل مع الجيش الروسي لمدة عام، والتهديد باستخدام النووي، وهو ما لم تقابله أمريكا سوى بالحدة والتصعيد ووضع خطط المواجهة التي ستكون كارثية على العالم أجمع.

القضية عند بوتين لم تعد اقتصادية ولم تعد تشغله العواقب السياسية لهذه الحرب، ولكن أصبحت قضيته الحيلولة دون سقوط بلاده، والحفاظ على كرامته وزعامته، والقضية لم تعد عند أمريكا دعم أوكرانيا أو الحيلولة دون احتلال روسيا لها، ولكن الدفاع عن زعامتها للعالم، والاحتفاظ بتفرّدها قوة عظمى لا تسمح لأي دولة بالتمرّد على إرادتها، والقضية عند الأوروبيين لم تعد تأمين مصادر الطاقة والغذاء لشعوبهم، ولكن تأمين جغرافية بلادهم وأمن القارة ودولها، والقضية عند فقراء العالم ستظل فقط تأمين لقمة العيش وضمان البقاء.

ليس غريباً أن تستحوذ الحرب الأوكرانية على كلمات القادة أمام الجمعية العامة، فأمام حرب تزداد ضراوة يوماً بعد يوم، تتضاءل القضايا العالمية الأخرى حتى لو كانت قضايا وجودية، مثل التغير المناخي والأمن الغذائي والطاقة. فبالنسبة لكثيرين هي قضايا يمكن تأجيلها، والأهم اليوم، هو استقطاب الدول المستضعفة إلى هذا الطرف أو ذاك، وتكوين تحالفات جديدة ستسفر بعد الحرب عن خريطة جيوسياسية للعالم تختلف عن الخريطة الحالية، والخريطة التي تتشكل حسب موازين القوة لا مكان فيها سوى للأقوياء، ومن يقبل التبعية لهم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdhczwdd

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"