عادي
تشكيلات لغوية عابرة للثقافات

البصر أسير الأبجدية

23:47 مساء
قراءة 5 دقائق
13

الشارقة: عثمان حسن

امتاز الخط العربي على الدوام بما في حروفه من مرونة وانسيابية بقدرته على التشكيل والاستخدام في نماذج وتطبيقات فنية معاصرة، وقديماً انتبه الخطاط العربي لمثل هذه القوة وهذا الجمال بوصف ذلك من خصائص الخط، فأبدع تجارب فنية غاية في الروعة والسحر، وكان بذلك قد انتقل بالخط من نمطه التقليدي إلى أفق رحب من التطبيقات الفنية التي زادته ألقاً وجمالاً.

هذا الانفتاح على التطبيقات المعاصرة للخط العربي، يتواصل اليوم متماهياً مع كافة الطروحات التي تخطر في بال الخطاطين، ولعل أهمها هي تلك الأفكار التي تستكشف إمكانيات الخط وتحلق به وبإبداعاته عالياً في سماء الجلال والفكر، كما يتجلى اليوم في شعار الدورة العاشرة لملتقى الشارقة للخط، «ارتقاء» ومن معرض «المعارض المعاصرة» الذي يقام في متحف الشارقة للفنون بمشاركة 17 خطاطاً عربياً وعالمياً، هذا المعرض الذي ينسجم مع فكرة الأصالة المنفتحة على المعاصرة، ويثبت أيضاً أن الحرف العربي بما فيه من قوة وجمال، قد لعب دوراً محورياً في تحديد ماهية الشكل المرسوم واستخدامه في تكرارات، وإيقاعات متناغمة تبحث عن المعنى والقيم اللونية والضوئية والفسيفسائية التي قل نظيرها بما حمله «الحرف» العربي – تحديداً من سحر وجمال.

أرشيف الكاتب

«أرشيف الكاتب».. هو عمل تركيبي للفنان الأرجنتيني بابلو ليمان، ويتكون من (ورق، قماش، خشب، كرتون، كابلات، مصابيح كهربائية، معدن، وأكريليك). وهو أستاذ في الجامعة الوطنية للفنون في بيونس آيريس.

في هذا التجهيز الفني المدهش، يتماهى الشكل والمحتوى في بوتقة واحدة، فلا شكل من دون محتوى، والعكس صحيح أيضاً.

بنى ليمان عمله متخيلاً منزل الكاتب، الذي يحتوي أرشيفه على غرفة خاصة لحفظ المخطوطات والنصوص والذكريات وفهرستها وتخزينها.

هذا المكان أو هذه الغرفة، تحتوي على أرفف متنوعة مليئة بملفات صندوقية، وخزائن فهرسة، ومساحة تتراكم فيها أكوام النصوص المختلفة في حالة من الفوضى. كما يحتوي كل ملف على صندوق، وكل خزانة فهرس على ملصق خطّي للإشارة إلى الموضوع الذي جرت أرشفته.

يحاول ليمان تشكيل عمل فني يعكس طبيعة هذا المكان – الأرشيف الذي يخص الكاتب، والتي توجد فيه «صفحات الكتب» هذه الصفحات تشكل الدعامة الرئيسية للبناء للمكاني للجدران والسقوف والأرفف.

وفي هذا الفضاء تشكل النصوص والكلمات البنية الهيكلية أو المادية لعمل بابلو ليمان، عدا عن كونها تمثل «محتوى» يحمله الآرشيف، والشكل هنا، يحمل المحتوى وهو جزء رصين من فضائه، ويسعى التجهيز أيضاً إلى إيجاد مكان ووظيفة جديدة لتلك الكتب الصفراء والممزقة والقديمة التي لم تعد مستخدمة أو طواها النسيان في المكتبات، وذلك من أجل منحها فرصة للبقاء على قيد الحياة، وتقديم التفسيرات وإعادة الإشارة إليها في السياق والوقت الجديدين.

يستكشف العمل طرق تحويل النصوص إلى أشكال ملموسة، وهو يعكس ماهية العلاقة بين القراء والكتب، كما يهدف «أرشيف الكاتب» أيضاً إلى تقديم الكتب كأشياء جميلة، وكيانات تحتفظ بعلاماتها الغامضة الأساسية، حيث تدعونا ألغازها أو غوامضها للمشاركة والخروج من التجربة الحرفية اليومية، والدخول في فضاء بديل، لا يكون فيه التفسير أو التحليل ممكنا فحسب، بل ضرورياً أيضاً.

الأرشيف في نهاية المطاف، هو مكان يمنحنا إمكانية استعادة أحداث الماضي، إلا أنه في الوقت نفسه، وفي صميم هيكله فرصة للتحول وعدم الثبات.

معنى الوجود

من جهة أخرى وباستخدام مواد متنوعة، تصمم الفنانة اليمنية بيان باربود عملاً بعنوان «القِبلة» والقِبلة بالنسبة لباربود ليست المكان المعروف لدى المسلمين، بل هي أيضا قبلة بشرية، تدعو من خلالها الجمهور لتأمل أعماق الإنسان، والنموذج البشري المقتدى به يتمثل في سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تجتمع فيه أسمى الخصال وأرفعها.

ومن خلال التأمل في هذا الهيكل الفني، تحفز باربود المشاهد ليتأمل العمق، والعمق هنا، هو شيء جوهري، يمكن أن نقتدي به ونبرزه، ومن خلال الاقتداء به يمكن تمثله في الأشياء الكثيرة التي تصادفنا في الحياة.

لذا، قامت باربود وهي خطاطة ومصممة جرافيك، بتصميم عملها من خلال شكل دائري، في وسط هذا الشكل، رسمت منظوراً أمامياً يمثل القِبلة المعروفة، لكنها محاطة، بكل ما يشير إلى سيد الخلق من صفات معنوية، من حيث الطهارة والعفة والصدق، وأيضاًَ الصفات الشكلية للنبي الكريم التي وردت في المرويات الصحيحة عن السلف الصالح.. والاقتداء بهذا المعنى – كما قلنا سابقا - هو شيء روحي، ووجداني، وطهراني، يضيف معنى أصيلاً للحياة البشرية على وجه الكون.

بيت ابتهال

البحث عن كائن روحي للإرشاد والحماية والشفاء، هو كما تؤكد الفنانة الأمريكية زينب صعب من الولايات المتحدة الأمريكية، نمط سلوكي مشابه لنمط الصلاة.

وهذا ما تحاول زينب صعب تنفيذه في عملها «بيت ابتهال» من خلال ثلاثة نماذج هي: «أتمنى أن تنجح» و «كما الربح المحقق» و «كن» والنموذج الثالث هو مظهر مادي للذات على شكل كتاب حقيقي، أو هو بعبارة أدق تمثيل من الحروف، يظهر كيف توجد البداية والنهاية في الوقت نفسه في الجسد، وفي هيكل الكتاب.

تمثيلات الحروف في الهيكل المصمم على شكل كتاب تظهر مجموعة لا متناهية من الحروف المتوازية والمتقاطعة، وكأنها كائنات روحية سابحة في الفضاء.

ويركز عملها المشارك في ملتقى الخط العاشر، كيفية استكشاف الطفل الداخلي من خلال نظرية الألوان وتلك الشبكة الحروفية التي صممت بمنتهى البراعة.

التحول

في عمل فني معاصر للفنان ساسان ناصرنيا / إيران، بعنوان «التحول» يتبنى هذا الفنان وجهة نظر فنية حول بعض الظواهر الأساسية في الطبيعة، وقد تكون هذه الظواهر متقابلة أو متعارضة، كالنظام مقابل الفوضى، والطاقة مقابل المادة وتفاعلها في الطبيعة، وهو يستخدم فن الخط للإشارة إلى هذه الموضوعات، وغالبا ما يذهب بعيدا خارج اللغة، بتصميم أشكال تميل إلى التجريد، ومن خلال منحوتات فولاذية كما في واحد من تصميماته بعنوان «التفاف» هذه المنحوتات رغم صلابتها، فهي قابلة للتشكيل، كما يراها ساسان، وقابلة للسلاسة والليونة، وهو الذي يستخدم في منحوتاته الألوان الزاهية للخط، في مقابل اللون الباهت للإطار الذي يكون رمادياً في أغلب الأحيان، وفي التمييز بين المستويين اللون الزاهي من جهة واللون الرمادي من جهة ثانية، تكمن براعة المنحوتات التي يصممها هذا الفنان المبدع، خاصة وأنها –أي المنحوتات- تشي بالحركة والدينامية داخل العمل، حيث يتم أحيانا تحويل أشكال الحروف لتتجاوز صلابة الإطار، وهو بهذا العمل، يذهب مع المشاهد نحو مناطق جديدة وغير مكتشفة، وتتحدى التوقعات.

وساسان خلال دراسته لفن الخط اكتشف طرقاً أخرى للخط العربي والفارسي الكلاسيكي والحديث، كما وسع نطاق ممارساته الفنية لتشمل الطباعة والرسم والأرقام والتجهيزات الفنية.

ومن الأعمال المعاصرة الآسرة في المعرض التي يمكن الإشارة إليها، عمل آخر للفنان الإيراني سعيد خويه.. وهو بعنوان «سلسلة القصص غير المكتملة» بالألوان الزيتية والحبر على قماش.

في هذا التصميم، الذي يتشكل من الحروف والكلمات والدوائر والمنحنيات يأخذنا خويه إلى مناطق أبعد مما هو ظاهر في الشكل، خاصة وأنه اعتمد على براعته في ضربات الفرشاة، وهي ضربات سريعة غالباً ما تظهر بألوان رمادية، أما الفيصل في هذا التصميم أو الركيب الحروفي واللوني فيعتمد بشكل رئيسي على تلك الطاقة الوجدانية أو الانفعالية التي تصيب الفنان وهو يمارس عمله، وهي طاقة غير منظورة فيها كل ما جواني، وفطري، يكشف عن إضاءات روحية بعيدة.

تحول

في عمل فني آخر بعنوان «نشأة الفكر» للباكستاني شابر أحمد مير، يستلهم الفنان التشكيلات الصخرية الطبيعية التي تشترك مع التشكيلات اللغوية للنص العربي عبر تطور هذه التشكيلات في فضاء لانهائي من الإبداع.

يستند مير على الحروف الأبجدية كمكون رئيسي يشكل جوهر العمل الفني، الذي يتألف من تعبيرات لفظية غنية بالمعاني والدلالات، وصولا إلى تحفة بصرية تمثل التاريخ العريق للخط العربي.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdcr6nuz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"