حواريّة اللغويّ وابنه

00:09 صباحا
قراءة دقيقتين

قلت للقلم: ما لي أراك لا يقرّ لك قرار؟ قال: رأيت في ما يرى الواهم أنه يقظان وهو نائم، علاّمة من القرون الخالية، ممّن لا يشق لهم غبار. قلت: لو كنت مكانك لهممت بالفرار، فلا طاقة لرئتيّ على الأغبرة، وهذا الثلاثي يذكّرني بداحس والغبراء، وسائر هموم القرون الغابرة. لكن حدثني عن ذلك العالِم البحر النحرير.
قال: لقد روى لي أشجانه في شجون نجله، وما قاساه من أجله. فقد أرسله لتحصيل النحو والصرف وما لهما من القواعد، في بلاد العلوم فيها بوارق رواعد، ودجّجه بمعجم «لسان العرب»، ليستعين به في ساحات اللغة والأدب. ولعل من كان على شاكلتك في ادّعاء الفهم والإدراك، قد لا يخفى عليه الفرق الشاسع، والبون الواسع، بين كدح الورّاقين ماضياً، ودُور النشر حاضراً، فمثل قاموس ابن منظور، يحتاج إلى شهور لنسخ مجلداته، فخشية الوقوع في الأخطاء والتصحيف والتحريف، تستلزم عناية ودقة فوق ما ينوء به ثاقب اللؤلؤ.
قلت: ذكّرتني بطرفة بشار بن برد، الذي أدخلوه على الخليفة، فسأله: ما مهنتك؟ فقال ساخراً: «أثقب اللؤلؤ يا أمير المؤمنين»، وهو كما تعلم ضرير، وثقب اللآلىء يحتاج إلى عين صقر أو مجهر. قال: أنت اليوم تستطيع الحصول على «لسان العرب» تنزيلاً من الشبكة العنكبوتية بنقرة فأرة، فإذا هي في لمح البصر أسفار مصوّرة في أحسن صورة، نسخاً طبق الأصل، في أصحّ مضمون وأجمل شكل. قلت: ولكن كيف كانت نهاية القصّة؟ وما الذي عاناه العلاّمة من غصّة؟ قال: لك أن تعجب ممّا لا يصدّق، وما يحار فيه الفكر ويغرق، فقد قضى ذلك الفتى في دراسة العربية ستة عشر عاماً، ذهبت الآمال فيها هباءً وأوهاماً. وظل الطالب يتهيّب الرجوع إلى أبيه بلا طائل، وبسعي فاشل، وعمل ضائع غير نائل، حتى ابيضّت من الوالد العيون، وورمت من الدموع الجفون. قلت: عجباً، سبحان الله، كأن ذلك الفتى من طلبة العالم العربي اليوم، ففي المناهج العربية أيضاً يقضي الفتيان والفتيات ست عشرة سنة يتعثرون في دروب النحو والصرف الشائكة، وفجاجها الحالكة، ولا يذوقون من فوز، فيه حلوى جوز أو لوز. قال: ما زاد الطين بلّة في هذه الحسرة والعثرة، هو أن الفتى أضاع معجم «لسان العرب»، فلا هو ملك لغته، ولا حافظ على التراث.
لزوم ما يلزم: النتيجة التذكيرية: قال العلاّمة لابنه: «ابكِ مثل النساَ لسانا مُضاعاً.. لم تحافظ عليه مثل الرجالِ».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/k27c8xhv

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"