الوصاية المالية.. اليونـان نموذجـاً

21:57 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد*

يوم السبت 20 آب/أغسطس 2022، احتفلت الحكومة اليونانية بانتهاء الوصاية المالية التي فرضتها عليها «الترويكا» الأوروبية: صندوق النقد الدولي، البنك المركزي الأوروبي، ومفوضية الاتحاد الأوروبي. هي نفس الحكومة اليمينية التي تسببت فيما تبيّن سريعاً للشعب اليوناني أنه كارثة اقتصادية افتُضح أمرها (بعد التستر عليها بتزوير مؤشرات قياس الأداء الاقتصادي الأساسية) في تشرين الثاني/نوفمبر 2009، متمثلة في عجوزات مالية مدمرة (في الموازنة وفي الديون المستحقة السداد للبنوك الأوروبية)، ما أودى بحياة ملايين اليونانيين للخراب التام والفقر المطلق (أي عجز الغالبية العظمى من الشعب اليوناني عن تأمين الاحتياجات الأساسية للحياة: المأوى والغذاء ومياه الشرب الآمنة والتعليم والرعاية الصحية ونحوها).
فُرِضت الوصاية على اليونان لقاء تلقيه حزم إنقاذ مالي بلغ إجمالي قيمتها 289 مليار يورو، وتضمنت منع اليونان من الخروج من منطقة اليورو، وإلزامه بتنفيذ مروحة واسعة من التغييرات الجذرية في بنيته وسياساته الاقتصادية والاجتماعية. وشمل ذلك تخفيضات كبيرة في الإنفاق الحكومي والرواتب، وزيادة الضرائب، وخصخصة المرافق والمؤسسات المملوكة للدولة، وغيرها من التغييرات الكاسحة التي استهدفت استعادة التوازن المالي المختل للبلاد بسبب عبث نخبتها الحاكمة وتدليسها لبيانات أدائها المالي والاقتصادي. فكان أن أدت هذه «الحسومات» الجراحية القسرية من جسم الاقتصاد اليوناني، إلى تقليص حجمه بأكثر من 25%، وارتفاع البطالة إلى ما يقرب من 28%، ونزوح أعداد مهولة من خيرة الاختصاصيين والمهنيين المهرة إلى خارج البلاد.
إنهاء الوصاية، كان ثمنه مكلفاً للغاية. رئيس الحكومة اليونانية أقر بأنها كانت 12 سنة من الآلام والانقسام المجتمعي. لكنه عاد إلى التباهي بأن بلاده اليوم تعافت تماماً من أزمتها ومن نموها السالب، فبدأت «تسجل نمواً قوياً وانخفاضاً كبيراً في البطالة». ولا أدري من أين واتته هذه الثقة بالنفس أم أنها العادة في تدليس البيانات التي كانت ترفعها أثينا إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي والتي تكشفت فيما بعد عن الكارثة المعروفة. فالأرقام لا تبعث كثيراً على الفخر. ولابد من الانتظار ريثما يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود. فقد نما الاقتصاد اليوناني في عام ما قبل الجائحة (2019) بنسبة 1.8%، لكنه انهار في عام الجائحة (2020) بنزوله إلى ما دون الصفر، بنسبة نمو سالبة بلغت -9.2%، قبل أن يتعافى بشكل كبير في العام الماضي ويحقق 8.3%. أما البطالة فهي أكبر بكثير مما ذكره رئيس الحكومة. إذ بلغت في العام الماضي 14.8%. بما يضع اليونان على رأس قائمة الدول الأكثر هشاشة اجتماعية بين دول الاتحاد النقدي الأوروبي أو منطقة اليورو. وترتيباً، فإن الحد الأدنى للأجور في اليونان هو من أدنى معدلات الأجور في الاتحاد النقدي. إنما الأخطر هو بقاء سبب الأزمة يُذكِّر بعدم استعجال الاحتفال بالخلاص من الوصاية. حيث بلغت نسبة الدين الحكومي إلى إجمالي الناتج المحلي في العام الماضي 193.3%. وهذا يزيد بكثير على النسبة المحققة في عام الأزمة (2010)، وهي 146%، والتي تسببت في فقدان القدرة على الدفع Default، أي الإفلاس.
ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يعني أن الوصاية المالية الكاملة يمكن أن تعود في أية لحظة. فاليونان كما بقية دول الهامش في الاتحاد الأوروبي: إسبانيا والبرتغال وقبرص وإيرلندا المثقلة بمديونيات خارجية مازالت تشكل تهديداً لائحاً لاستقرارها المالي، ستبقى، بحسب المفوضية الأوروبية في بروكسل، خاضعة للمراقبة من قبل دائنيها طوال فترة سداد ديونها. وفي حالة اليونان، سوف يستغرق ذلك جيلين آخرين، مع استحقاق سداد آخر القروض في عام 2070.
في السياق العام، لا يزال الوضع في اليونان اليوم هشاً في ضوء الإحصاءات الرسمية التي تشير إلى أن 28.9% من السكان معرضون لخطر الفقر أو الإقصاء الاجتماعي المرتبط بالدخل المعلن عنه في عام 2020، والذي يؤثر في الغالب في الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و64 عاماً (31.9%). ووفقاً ل «يوروستات»، فقد بلغ معدل «التعرض لخطر الفقر» (At-risk-of-poverty rate) في ديسمبر 2021، 19.60%. ويقيس معدل التعرض لخطر الفقر، نسبة الأشخاص الذين لديهم دخل متاح صاف (بعد سداد الضرائب والرسوم)، أقل من عتبة التعرض لخطر الفقر المحددة عند 60% من متوسط صافي الدخل المتاح على المستوى الوطني. أي أن هذا المؤشر لم يتغير كثيراً عن مستواه القياسي الذي بلغه في ديسمبر 2013، وهو 23.10%. بل إنه يزيد على ما كان عليه في ديسمبر 2020، وهو 17.70%.
بهذا المعنى، فإن اليونان تقدم نموذجاً للدول، ومنها بعض الدول العربية، التي تستخف بقانون موازنة مواردها وطاقاتها البشرية المتاحة، مع إمكانيات نموها وتوسعها الاقتصادي وطموحات تمددها التنموي.
* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mv4u5fjx

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"