إفريقيا ومحنة العبودية

00:18 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

ما أبشع جرائم الإنسان الأبيض في حق أبناء القارة الإفريقية عبر القرون الماضية، ولا تزال منافذ تسليم الرقيق لسفن الشحن، شاهدة في السواحل الغربية للقارة الإفريقية سواء كانت تلك المنافذ في ليبيريا أو السنغال أو غانا أو غيرها. إن تجارة العبيد وتصدير الرقيق إلى العالم الجديد، تمثل مأساة كبرى، ووصمة عار في جبين الإنسان الذي يدّعي التحضر، ويتشدق بالمدنية. ولم يقتصر الأمر على الأفارقة وحدهم؛ بل إن حملات الإبادة الأمريكية للسكان الأصليين للبلاد كانت مأساة كاملة الأبعاد عندما شنوا كل أنواع الحروب على الأبرياء العزل الذين يعيشون على أرضهم منذ آلاف السنين؛ إذ إن الغازي القادم عبر المحيط كان يستخدم ضد أصحاب الأرض كل أنواع الإبادة بما في ذلك حرب الجراثيم والأوبئة وإعطاء أولئك المساكين (بطاطين) لمواجهة البرد، بينما هي مخازن حقيقية لشحنات معدية من أمراض خطرة. ولم تمضِ سنوات قليلة وقتها إلا وقد أصبح السكان الأصليون لأمريكا نماذج بشرية متحفية لا وجود لها في الحقيقة إلا ما ندر.
 نعود إلى أشقائنا الأفارقة، لنعرف حجم العذاب الذي شعروا به، والاضطهاد الذي عانوه والتعاسة التي لازمتهم منذ لحظة الأسر في جرائم مبكرة لما نسميه الآن الإتجار بالبشر، وربطهم بسلاسل حديدية عبر معابر ضيقة على الساحل، لتتجه بهم السفن الغاصبة نحو العالم الجديد، وما أكثر الآلاف الذين مرضوا أو قضوا نحبهم في أثناء تلك الرحلات، وجرى إلقاؤهم في المحيط، وبعضهم كان لا يزال على قيد الحياة، لكي تنهش الأسماك أبدانهم، ويعبر الرجل الأبيض بتلك الجرائم المشينة عن حضارته المدعاة وأخلاقياته الراقية.
 وأتذكر الآن قصة قصيرة حدثت لي في العاصمة البريطانية لندن في أواسط سبعينات القرن الماضي؛ حيث كنت أعمل بالسفارة المصرية هناك وأسكن في عمارة متميزة تُسمى (لوردز كورت) فسمعت صوت ارتطام شديد في الشارع، وكان الجو عاصفاً، والأمطار شديدة قبيل منتصف الليل، وقلت لزوجتي يومها: أظن أن سيارتي التي أتركها أمام المعبد اليهودي المجاور قد اصطدمت بها إحدى السيارات العابرة، لكني لن أستطلع الأمر الآن (فالصباح رباح) كما يقولون، ولأني كنت أسكن فوق معرض للسيارات، فقد استسهلت الأمر في اليوم التالي، ودفع لي صاحب السيارة الأخرى مقابل التلف الذي جرى لسيارتي، واتضح فيما بعد أنه كان صداماً متعمداً من جانبه، للتعرف إليّ في خدمة أهدافه الاستطلاعية وسط الدبلوماسيين الشباب الوافدين من دول الشرق الأوسط.
 المهم أنني كنت أجلس ذات يوم في صالون شركة السيارات المذكورة أسفل مسكني مباشرة في انتظار دوري لتسليم سيارتي للإصلاح الدوري، فإذا بي أرى أمامي الرئيس النيجيري السابق يعقوب جوون الذي كان قد أطيح منذ عدة شهور فقط وجاء إلى بريطانيا للدراسة ليبدأ حياته من جديد بعد أن كان رجل نيجيريا القوي، وتطلعت إليه قائلاً: سيدي إنك تشبه الرئيس جوون رئيس نيجيريا تماماً، فرد قائلاً: «أنا الجنرال جوون»، ودار بيننا حديث نقطع به ملل الانتظار حتى يأتي دورنا، فقال لي إنه يدرس في إحدى الجامعات البريطانية، ويسكن في المدينة الجامعية، ويعيش الحياة العادية للطلاب، فذلك أمر كان يفتقده في غمار السلطة التي قذفت به إلى قمتها لعدة سنوات، فقلت له: «يا سيدي الرئيس هل تسمح لي بدعوتك إلى فنجان شاي في منزلي بنفس البناية بالدور الثاني»، فقال لي: «لا بأس، فصعدنا وجلسنا ساعة أو بعض الساعة يحكي لي فيها عن ذكرياته ويحدثني عن مشاهداته، ولفت نظري ثقافته العالية وإرادته القوية»، وقد قال لي: إنني من قبيلة مسلمة ولكن حملات التبشير تمكنت من تنصيري في سن مبكرة، ولا زال اسم شقيقتي حتى الآن هو فاطمة.
 وعندما التقيت البطل الإفريقي العظيم نيلسون مانديلا في عاصمة ناميبيا عشية استقلالها كنت أتفحص ملامح وجهه وعليه بصمات 27 عاماً في السجن بسبب نضاله ضد العنصرية والاستعمار؛ لذلك آمنت دائماً أن التمييز العنصري داء لعين أتمنى أن تبرأ الإنسانية منه دائماً.
 إن القارة السمراء دفعت ثمناً فادحاً في نضالها ضد الأجنبي الوافد أو الأبيض المغتصب الذي سرق ثرواتها وأفنى الآلاف من أبنائها وجعلها لعقود طويلة فريسة للفقر والجهل والمرض يجلب منها كل ثمين ونفيس ويترك فيها كل مؤلم ومشين، وها هي مصر تستعيد روح عبد الناصر في إفريقيا ويمضي الرئيس عبد الفتاح السيسي في كل مناسبة للتذكير بآلامها ومعاناة شعوبها والرغبة في دفعها إلى الموقع الإنساني الذي تستحقه والمكانة الدولية التي تسعى إليها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/y4pwhjcp

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"