صمود الدولار!

20:58 مساء
قراءة 3 دقائق

د. محمد الصياد *

يسود اعتقاد في أوساط المال والأعمال في العالم، أن الحرب الأطلسية الروسية على الأراضي الأوكرانية، والحرب الاقتصادية الغربية الروسية، ستُنشِئان واقعاً اقتصادياً ومالياً ونقدياً عالمياً يختلف عن الواقع الساكن الذي كان سائداً قبل هاتين الحربين. ومن بين أهم تغيراته، التراجع التدريجي للطلب على الدولار الأمريكي، تزامناً مع تحول الاحتياطيات إلى سلة أكثر تنوعاً من العملات، ما سيؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار. وإذا ما تحقق ذلك بصورة فوضوية، فسيكون العالم من جديد أمام عمليات بيع مذعورة، ستفضي إلى إغراق أسواق الفوركس بالدولارات بسرعة. هنا سوف يسارع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي للتدخل لمنع تبخر فائض الطلب بالكامل؛ إنما في النهاية سيتم الوصول إلى سعر التوازن الذي يعتمد على الطلب الحقيقي على الصادرات الأمريكية. وقد يؤدي انخفاض الدولار إلى جعل الصادرات الأمريكية أكثر جاذبية، لكن بصورة مؤقتة، لأن عدداً كبيراً من الصادرات الأمريكية يعتمد كلياً أو شبه كلي على مدخلات المواد الخام المستوردة وعلى العمالة الرخيصة المهربة. هنا أيضاً سوف ترتفع كلفة هذه المدخلات المستوردة بشكل كبير مع انخفاض قيمة الدولار.

لقد بقيت الولايات المتحدة تستخدم الوضع الامتيازي لعملتها الوطنية (الدولار)، أو ما وصفه كريستوفر سمارت، رئيس قسم الاقتصاد الكلي والبحوث الجيوسياسية في Barings (شركة دولية لإدارة الاستثمار مملوكة لشركة ماساتشوستس ميوتشوال للتأمين على الحياة)، وزميل مخضرم غير مقيم في مؤسسة كارنيغي للسلام)، بأن الدولار له «دور متميز» في التفاوض على الصفقات المالية، مع امتلاك اليد الطولى حين يتعلق الأمر بقضايا محددة، بما في ذلك إعادة هيكلة الديون أو العقوبات المالية المستهدِفة لجهة محددة. ولكل هذه الأسباب، فإن العديد من البلدان بدأت تفكر في الابتعاد عن «فخ الدولار» (Dollar trap).

كثيرة هي التحليلات الأمريكية التي تتناول فرصة استمرار هيمنة الدولار الأمريكي على سائر أدوات الدفع الدولية، باعتباره أداة تأمين واستدامة الهيمنة الأمريكية على العالم. يحدث ذلك في وسائط الإعلام السائد وفي الإعلام الموازي أو البديل على حد سواء. حتى أن بعض هؤلاء المحللين الاقتصاديين الأمريكيين، يربطون بين الحرب بالوكالة في أوكرانيا وبين دأب الولايات المتحدة لتعويم الدولار، حتى لو كان على حساب اقتصادات بلدان الاتحاد الأوروبي. ويرى هؤلاء بأنه سيتم في نهاية المطاف تحديد القيمة الحقيقية للعملات في الاقتصاد العالمي، توازياً مع اضمحلال هيمنة الدولار الأمريكي، من خلال الطلب على السلع والخدمات التي تنتجها الدول. ومن متابعة منتظمة لما تنشره وسائط الميديا الأمريكية ومعها عشرات مراكز الأبحاث التي أنشأتها أمريكا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، سيلحظ تزايداً في تناول موضوع الدولار الأمريكي والدفاع عنه قبالة التحليلات الأمريكية والأجنبية التي تقترح قرب أفول المرحلة الدولارية في النظام النقدي العالمي. وهو ما يبعث على التساؤل عما إذا كانت واشنطن ستذهب إلى آخر الشوط في دفاعها المستميت عن الوضع الامتيازي المهيمن للدولار في النظام النقدي العالمي، بما في ذلك استخدام قوتها العسكرية الضاربة في سبيل إنقاذه؟

قوة الدولار الأمريكي مرتبطة بشبكة واسعة من المصالح التي تمتد من أطقم بيروقراطيات أجهزة الدولة المتشعبة، إلى الشركات والبنوك الكبرى في واشنطن وفي بعض عواصم الغرب الرئيسية. فالدولار هو العمود الفقري الذي يمنح واشنطن امتيازاً استثنائياً لمواصلة هيمنتها الجيوسياسية، المدعومة بقوتها العسكرية، على اقتصاد العالم وموارده الطبيعية. كما يسمح الدولار، بتربعه على عرش النظام النقدي العالمي، لواشنطن، بتخويف الدول ذات السيادة من خلال التلويح بعصا العقوبات الاقتصادية، كوسيلة للتأثير أو السيطرة المباشرة على سياساتها واقتصاداتها. وهذا ما يفسر تسريع إغراق العالم بالدولار الأمريكي.

وإذ تستمد الولايات المتحدة قوتها الأهم من التحكم في نظام معاملات العملات العالمي SWIFT، ومن ميزة الدولار كعملة احتياط عالمية، فإن بوسعها خلق معروض غير محدود من»النقود» لاستثمارها في أية شركة في أي بلد في العالم، وامتلاك هذه الشركة. ما يعني أن أية دولة لديها بورصة للأوراق المالية، يمكن أن تتعرض لخطر «شراء» شركاتها الكبرى من قبل صاحب امتياز طباعة الدولار. وهذا أحد أكبر الأخطار التي بدأت تتفطن لها بعض الدول، مثل الصين وروسيا وغيرهما. فامتلاك امتياز طباعة كمية غير محدودة تقريباً من النقود، من دون التسبب في تضخم مفرط (Hyperinflation)، يعني تمتع أمريكا بامتياز شراء النفوذ السياسي وشراء الأصول الثابتة والمتحركة في أي بلد تقريباً، باستثناء تلك الدول التي تسيطر فيها الدولة على مفاتيح اقتصادها.
* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yeafvczr

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"