الأيديولوجيا والمشهد السياسي العربي

00:45 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. يوسف مكي

الأيديولوجيا في الأصل مفهوم وافد على اللغة العربية. وهي في أصلها فرنسية، وتعني علم الأفكار. لكنها لم تواصل احتفاظها بهذا المعنى، ذلك أن الألمان استعاروا الكلمة وضمنوها معنى آخر، ربط المفهوم ب«اليوتوبيا».

وحسب ريكور فهناك دائماً مزاوجة بين المفهومين، على الرغم من أن الأيديولوجيا تنتمي إلى علم الاجتماع والسياسة، بينما تنتمي «اليوتوبيا» إلى التاريخ والأدب. لكن ريكور وضع مقاربة أخرى للمفهومين، ربط بها الأيديولوجيا مع الواقع والعلم، بينما نظر إلى «اليوتوبيا» باعتبارها حلماً أو خيالاً دالاً على رغبة.

في التراث السياسي العربي تشير الأيديولوجيا إلى منظومة فكرية أو عقيدة أو ذهنية. وقد استخدمت في السنوات الأخيرة وبشكل خاص بعد سقوط الحرب الباردة باعتبارها دوغما. إنها التعصب لفكرة ما، ورفض ما سواها من الأفكار، وأحياناً توصف الأيديولوجيا بالتعصب العقائدي، وهي بهذا المعنى رديفة للتحيز.

لكن الأمر لم يكن كذلك أثناء حقبة انتعاش الحركات القومية واليسارية، حيث كان مريدو تلك الحركات، يفاخرون بانتماءاتهم ويدافعون عنها، ويرون أنها مرشدة لتحقيق التطور والتقدم في مجتمعاتهم، إلا أن ذلك لم يكن دائماً موضع إجماع، فقد كان هناك أناس مناصرون للأيديولوجيا باعتبارها نظرة شاملة للكون وموقفاً من الأشياء، وبين معارضين يرونها معوّقاً للانطلاق نحو عالم وفكر أرحب.

وفي هذا السياق، يرى الدكتور نديم البيطار، أن هناك بنية أساسية واحدة تعيد ذاتها في جميع الأيديولوجيات التاريخية المتكاملة الجوانب، سواء كانت دينية أو علمانية.

إذا سلمنا بنظرية الدورة التاريخية، فإننا نجيز لأنفسنا تطبيق هذه الدورة على الأفكار. فتاريخياً، هناك صراع فكري مستمر بين رؤيتين: رؤية منفتحة وأخرى منغلقة. وقد كان ذلك هو الواقع مع المذاهب السياسية الوضعية، كما هو أيضاً مع العقائد والمذاهب الدينية. والأفكار هي في النهاية استجابة وتعبير عن واقع موضوعي ترتقي في لحظات النهوض، وتتراجع في لحظات الضعف.

هكذا كان التاريخ دائماً منذ القدم. فالإبداع والمبادرة رديفان للتقدم والنهوض، والتخلف وغياب المبادرة رديفان للجهل والتخلف. وقد شهد سقوط الحضارة اليونانية، بروز الفلسفة الأبيقورية والرواقية و«اللا أدرية» التي لم تكن تعني سوى التشجيع على القبول بالهزيمة. كان ذلك نقيض فلسفة سقراط وأرسطو وأفلاطون: الفلسفات التي برزت وانتعشت أثناء توهج حضارة الإغريق.

في التاريخ العربي المعاصر، نشأت الأيديولوجيات السياسية، كانعكاس لأفكار تلاقحت مع الفكر الإنساني العالمي، وتماهت مع شعاراته. فقد تأثرت حركة اليقظة العربية، بشعارات الحرية والاستقلال، وطمحت إلى الخلاص من السيطرة العثمانية، مؤسِّسة لهوية عربية معاصرة تتسق مع الأفكار الحديثة التي ارتبطت بالتحولات السياسية الكبرى في القارة الأوروبية. وحين طعنت النخب العربية في حلمها بتشكيل دولة عربية مشرقية، بدت الأبواب مفتوحة لتيار الإسلام السياسي، لتحل محل النخب التي قادت حركة اليقظة العربية، تعبيراً عن خيبات مشروع اليقظة وفشل محاولات الانعتاق من السيطرة الأجنبية، والعجز عن بناء دولة عربية عصرية.

لقد مرت الأيديولوجيا ببعديها القومي والوطني، من جهة، والإسلام السياسي المعاصر من جهة أخرى، بحالات تبادل تاريخي أفضى لأن يكون الصعود الأيديولوجي لأحدهما مدعاة لتراجع الأيديولوجية الأخرى.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ساد نظام الثنائية القطبية، وكانت فترة ترصين للعلاقات بين الدول، وأعقبتها الهيمنة الأحادية التي اتسمت بالغطرسة وامتهان سيادة الدول، وقد كان من نتائجها الانفلات والفوضى اللذين يعمان منطقتنا الآن.

وفي ظل تعاظم الصراع بين القوى الدولية في هذه اللحظة، وبشكل خاص بعد انطلاق العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، لا يبدو أننا أمام تسويات تاريخية سريعة. فالتسويات الكبرى تتطلب حروباً في حجم تلك التسويات بين القوى الكبرى، والقوى المرشحة دولياً لملء الفراغ كثيرة. هناك روسيا والصين والهند، وفي القارة الأوروبية: ألمانيا، وهناك من يطالب بإعادة تركيب هيكلية مجلس الأمن الدولي على ضوء حقائق القوة الجديدة.

من غير المتوقع أن يتوصل الكبار في وقت قريب إلى توافقات وتسويات، وحين يستمر الفراغ تستمر الفوضى، وتواصل طحالب التطرف بدغمائيتها المغرقة في التعصب ونشر الكراهية، لعب دورها التخريبي إلى أن تتغير موازين القوى الدولية، بما يجبر الكبار على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، والاحتكام مجدداً للقانون الدولي، المستند على احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وتحريم الاحتكام للسلاح في حل المنازعات الدولية، وحينها فقط لا تعود الأيديولوجيا دوغما ومخزناً للحقد والكراهية؛ بل رؤية محددة للكون، وموقف من الأشياء يمد بقواعد من السلوك.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/349t92nw

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"