المصلحة الوطنية وحسابات القوى الخارجية

00:29 صباحا
قراءة 3 دقائق

عاطف الغمري

كثيراً ما يحدث في أعقاب تحولات عالمية كبرى، ظهور تداعيات لها، تترك تأثيراً في دول ليست كبرى في مناطقها الإقليمية، بحيث تعتبر ما جرى عالمياً بمثابة دروس لها، تبني على أساسها نمطاً جديداً لتوجهاتها السياسية ينبع من خصوصية أوضاعها.

حدث ذلك في آسيا على وجه الخصوص عقب انتهاء الحرب الباردة، وزوال عصر صراع القوتين العظميين، وما بدا في البدايات الأولى لعلاقتهما الجديدة، من الأخذ بما سمي مبدأ المنفعة والمصلحة بدلاً من الأيديولوجيا، التي ظلت لعشرات السنين تحرك سياستهما الخارجية، واستخلصت دول آسيا الدرس من هذه التوجهات الجديدة للقوى الكبرى، فانطلقت في مسارات داخلية وطنية الطابع وفق قاعدة المنفعة والمصلحة، بعمليات تنمية اقتصادية جرت في ركابها نهضة في الحس الوطني لشعوبها التي راحت تستنبط الإلهام لحياتها من هويتها الوطنية، وكانت النتيجة متكاملة الأبعاد في هذه الدول، ودفعت بها إلى احتلال مكانة ونفوذ إقليمي ودولي.

يحدث ذلك الآن نتيجة انعكاسات حرب أوكرانيا، والصراع شديد التعقيد بين أمريكا والغرب من جهة، وروسيا من جهة أخرى، والذي أفرز نتائج عابرة للحدود والقارات حطت بتأثيراتها الضارة والسلبية في جميع مناطق العالم، وشملت الاقتصاد، والأوضاع المعيشية، والإحساس الطبيعي بالأمان.

وكان لابد أن يؤدي ذلك إلى إعادة أطراف إقليمية لحساباتها، ومنها منطقتنا العربية للأخذ بمفهوم الوطنية الجامعة، أو القومية. هنا يجذب نظرنا ما جاء في تقرير معهد البحوث العالمية الأمريكي، القائل: «إن المشاعر الوطنية صارت عنصراً له أهمية فائقة»، وذلك هو ما تنبّه له من يوجهون سياسة أمريكا الخارجية. وألقى التقرير عدم تنبّه صانعي السياسة الخارجية في واشنطن لذلك، على جهل المعنيين بتنفيذها، بثقافة وتقاليد شعوب هذه الدول، وهو ما أحدث رد فعل لدى هذه الشعوب بالتمسك بهويتها الوطنية.

إن النظرة إلى دور الهوية الوطنية ليست جديدة؛ لأن لها مقدمات سبق أن حدثت في التاريخ المعاصر. وعلى سبيل المثال، فإنني كنت حاضراً لافتتاح دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995، باعتباري مراسلاً في الأمم المتحدة، وتابعت جهوداً مكثفة من قوى كبرى للترويج لمعنى نهاية عصر الدولة الوطنية وإطارها القومي، وشاهدتُ ضغوطاً مكثفة على دول أعضاء في المنظمة الدولية لتبنّي صدور قرار بهذا المعنى، لكن ما حدث نتيجة مقاومة دول أخرى أن هذه المحاولة لم تنجح.

في هذا الوقت صدر كتاب «كعب أخيل: الحرب والسلام ومسار التاريخ» للكاتب الأمريكي فيليب بوبيت، وحمل دعوة لإعادة صياغة معنى سيادة الدولة على أرضها. وقال إن الدولة الوطنية ستنزاح من مكانها لتحل محلها «دولة السوق»، وبذلك تنتقل مسؤولياتها من حكوماتها إلى مؤسسات متعددة الجنسيات.

وذلك هو نفسه جوهر مشروع الإدارة الأمريكية عام 2001، الذي وصفه المفكر المحافظ كراوتهمر المنتمي لهذا المشروع، بطمس الهوية القومية عن طريق تغييرات من الخارج تُفرض على هذه الدول في السياسة والاقتصاد والثقافة والتقاليد والتاريخ.

على الجانب الآخر وحسب تقدير الملتفين حول قضية الدولة الوطنية، فإن ما طرأ على العالم ومفاهيمه للأمن القومي من تغيرات، لا يلغي مبدأ تشابك وتكامل حدود الأمن الوطني ل«الدولة»، والقومي ل«الدول ذات القومية الواحدة»، والأمن العالمي.

وهذا ما بدأ يبرز بقوة في توجهات استراتيجية لدول المنطقة، تأخذ في حساباتها أهمية هذا التشابك، وهو ما يتعلق باتساع دائرة التعامل إقليمياً ودولياً مع تكتلات اقتصادية إقليمية ودولية، مع الأخذ في الاعتبار أن المنطقة العربية أساساً، هي ملتقى أطراف خارجية عديدة بعضها له أطماع في المنطقة، والبعض الآخر ويشمل دولاً عديدة يسعى إلى علاقات تعامل وتكامل في عديد من المشروعات مع دول المنطقة، وهو ما لا يمكن تجاهله في حسابات المنفعة والمصلحة الوطنية.

لقد جعلت الحرب الأوكرانية قوى كبرى تركز في مواقفها الخارجية على مصلحتها الذاتية مع تضييق نظرتها إلى مصالح الآخرين، ولم يكن من الغريب أن تتخذ دول إقليمية نفس النهج، فهذا هو حقها وواجبها نحو شعوبها في الوقت ذاته، وهو ما أعاد التركيز على معنى المصلحة الوطنية كمكون أساسي في استراتيجيات سياساتها الداخلية والخارجية.

إن تداعيات حرب أوكرانيا أظهرت قدراً من التضارب بين نظرة بعض الدول لمصالحها على النطاقين الدولي والإقليمي، وهو ما أنعش فكرة التقارب بين الدول التي تتكامل مصالحها المشتركة، وعزز مفهوم الدولة الوطنية وإطارها القومي الأوسع مدى، وذلك كله يحدث في أجواء تتغير فيها خريطة العالم دولياً وإقليمياً على السواء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/49bvksyy

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"