عالم بلا خرائط

00:22 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تضرب الخريطة بجذورها في مختلف أوجه حياتنا، فنحن لا ندرك أبعاد أي مكان من دون خريطة، تلك التي رافقت الإنسان منذ خطواته الأولى على الأرض واستمرت معه وهو يؤسس المدن، ويمارس الصيد والزراعة، وصاحبته في الكشوف الجغرافية، وكانت بحوزته دوماً في السلم والحرب، وعلى أساسها تشكلت أمم ورُسمت كيانات سياسية ونشأت دول.

ولم يتوقف الأمر على التاريخ وحسب، ودور البطولة الذي تلعبه الخريطة في السياسة، ولكنه امتد إلى أنشطة بشرية أخرى، فهناك خريطة للاقتصاد وللمناخ بأبعاده المختلفة: الرياح والمطر، وخريطة للكون وللجينوم البشري، وإذا انتقلنا إلى الفكر والأدب والفنون، سنجد أننا أصبحنا ندرك تقسيمات هذه الحقول عبر توزيعها إلى خرائط.

إن النظر بعمق في تاريخ الخريطة وإضافاتها المميزة واللافتة للثقافة الإنسانية، يؤكد أنها شجرة متكاملة من المعرفة، تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وتؤثر بقوة في الإنسان.

تدعونا الخريطة لكي نعانق الكون بأكمله، وقبل ذلك تحفّزنا لكي نتعرف إلى أنفسنا وإلى الآخرين، وتدفعنا إلى تلمّس أبعاد المكان الذي نعيش فيه، وإلى تخيل أمكنة لا مرئية، قرأنا عنها أو شاهدناها أو سمعنا بها، أو خزنتها الطفولة، فلا مكان من دون أبعاد أو اتجاهات أو بوصلة أو شوارع وأزقة وتقاطعات وبنايات أو حدود.

وفي النهاية نجد أنفسنا أمام شجرة كثيفة ومعقّدة تحتاج إلى معرفة لكي نسلك في دروبها، تتطلب، حتى لا تتحول إلى تيه أو ضياع أو فراغ أو عدم، إحداثيات نبصرها ونعاينها بالحواس والعقل، هي شجرة المعرفة أو شجرة الخريطة على وجه الدقة، وكأنه لا معرفة من دون خريطة.

الخريطة هي «الأنا» عندما تفرض نظامها على العالم المحيط بها، لم ترسم ثقافة ما خريطة إلا ومنحت نفسها دور البطولة، ووضعت نفسها وأفكارها أيضاً في المركز.

في هذا العالم الذي تحاول العولمة أن تشيّده من خلال الخرائط الإلكترونية، غاب كل ما يمكن أن تشعر الذات من خلاله بأنه ينتمي إليها، غابت فكرة «الأنا» المميزة التي لا تجد راحتها وعزاءها إلا في خريطة خاصة، أبعادها معروفة ومن السهولة إدراك سلالتها ومجموعتها البشرية ذات التاريخ و الآمال والأحلام والإحباطات والانتصارات والانكسارات التي لا يشاركها أحد فيها.

الخرائط الإلكترونية أحد أبرز أدوات العولمة التي استطاعت من خلالها أن تضعف علاقتنا بالأمكنة، في الماضي كنا نؤسس علاقات عضوية مع الشوارع والطرقات والأحياء، والآن انتهى كل ذلك، ما عليك إلا أن تفتح تطبيق الخرائط لكي تصل إلى وجهتك، ليس هذا فحسب؛ بل أصبح البعض منا يستخدم تلك الخرائط وهو في طريقه إلى مكان يعرفه. ففي حضرة تلك الخرائط لا مجال للذاكرة أو حفظ الإحداثيات أو سؤال البشر.

الخرائط الإلكترونية لا تقتصر على الطرقات فحسب، ولكن على مجمل الحياة التي بات تعاطينا مع وجوهها كافة، يتم من خلال شاشة في حجم كف اليد، والأخطر أن ينتقل تأثيرها السلبي إلى خرائط الأوطان، حيث سيصبح العالم ساعتها بلا خرائط.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/bdfbpufj

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"