أزمة الديمقراطية والنخبة الأوروبية

00:14 صباحا
قراءة 3 دقائق

أحمد مصطفى

كانت استقالة ليز تراس من رئاسة الحكومة البريطانية متوقعة، حتى من قبل توليها المنصب قبل شهر ونصف الشهر من تركه، بالضبط كما كان من المتوقع انتخابها للمنصب منذ بدء عملية اختيار خليفة لسلفها بوريس جونسون داخل حزب المحافظين الحاكم.

ما يجري في السياسة البريطانية، يحدث في أنحاء أخرى من أوروبا والعالم الغربي، وإن بدرجات متفاوتة من الاضطراب السياسي المصاحب للأزمات الاقتصادية والاجتماعية. إنما أهمية بريطانيا أنها تعد نموذجاً للديمقراطية الغربية التقليدية الراسخة؛ لذا تجد تطورات الأوضاع في لندن في دائرة الضوء، ربما أكثر من فوز اليمين المتطرف في إيطاليا، والاضطرابات الاجتماعية/السياسية في فرنسا، وسياسات التحالف السياسي الغريب في ألمانيا وتبعاتها الاقتصادية والاجتماعية؛ بل وحتى من أزمة الديمقراطيين في الولايات المتحدة واستعدادهم لخسارة انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الشهر القادم.

وهناك مبرر قوي للنظر إلى بريطانيا، على الرغم من تراجع أوضاعها الاقتصادية ودورها في العالم، على أنها المؤشر الرئيسي على مسار الديمقراطية الغربية، والوضع العام للنخب السياسية في الغرب كله. منذ منتصف فترة حكم حزب المحافظين في بريطانيا، التي بدأت قبل 12 عاماً، سيطرت على الحزب مجموعتين من داخله، تمثلان فعلاً نموذجاً على فقر الفكر السياسي وشعبوية النهج العام وعنجهية «العزة بالإثم». من رموز تلك المجموعات بوريس جونسون ومايكل جوف وجاكوب ريس- موج ودومينيك راب وغيرهم.

وأدى احتكار تلك المجموعة من النخبة السياسية مقدرات الأمور إلى تفريغ الديمقراطية من معناها، وساعد على ذلك خواء المعارضة السياسية التي لم تستطع الرقي إلى مستوى إقناع الناس بأنها البديل الأفضل. خاصة حزب العمال الذي سبق أيضاً وأفرغه توني بلير وجوردون براون من محتواه الأصلي.

والمفارقة، أن أغلب أحزاب اليسار الأوروبي بلغت من التدهور ربما أكثر مما وصل إليه حزب العمال ما قاد إلى فوز اليمين في أكثر من انتخابات من فرنسا إلى إيطاليا.

أما اليمين السياسي فتشظى أيضاً، لتصبح فصائله الشعبوية والأكثر تطرفاً، هي التي تقود. وتلك مشكلة النخبة السياسية الأوروبية والغربية عموماً، وهي أخطر في تبعاتها على المدى المتوسط والطويل حتى من الصراع مع روسيا والصين وحرب أوكرانيا. وما الإبقاء على جذوة الحرب مشتعلة في أوكرانيا إلا إحدى النتائج الجانبية لأزمة الديمقراطية الغربية و«ميوعة» النخبة السياسية. والأهم لكل تلك النخب الجديدة هو العنجهية والصلف واستمرار ارتكاب الأخطاء وإلقاء تبعاتها على أي مبرر آخر غير تصرفهم.

المثال البريطاني الصارخ على ذلك هو استفتاء عام 2016 على الخروج من أوروبا (بريكست)، والذي تمكنت تلك المجموعة في حزب المحافظين الحاكم من خداع الجماهير بأن «بريكست» هو أفضل شيء لبريطانيا وسيحوّل حياة البريطانيين إلى رخاء اقتصادي غير مسبوق. وبنيت حملة الاستفتاء على أكاذيب وتلفيقات، أثبتت المحاكم البريطانية، مؤخراً، كذباً صريحاً أدى إلى تضليل الجماهير.

لكن بالطبع لا يمكن لهؤلاء أن يعترفوا أن الجذر الأساسي لكل مشاكل بريطانيا الحالية، والتي تتفاقم منذ ما قبل حرب أوكرانيا، هو «بريكست». فكيف لها أن تنسف ما تعده إنجازها الرئيسي وربما الوحيد. وهنا بالطبع سمة أخرى من سمات تلك النخب، في بريطانيا وبقية الغرب، وهي تقديم المصلحة الذاتية الأنانية ومصلحة الحزب – أو حتى الفريق الذي ينتمون إليه داخل الحزب – على مصلحة البلاد والجماهير عامة.

السمة الأخرى لصعود تلك المجموعات من النخبة السياسية في الغرب هو الكشف التدريجي عن توجهات عنصرية كانت مستترة وتتخفى خلف غلالة من القانون. ظهر ذلك بوضوح أكبر مع الحرب في أوكرانيا، والتساهل مع تلك العنصرية في الإعلام وبشكل علني يكاد يجعلها بعد فترة أمراً مقبولاً. ليست عنصرية فقط تجاه «الآخر» من شعوب الدول غير الغربية، وإنما من تلك المجموعات اليمينية السطحية تجاه بقية الناس من أبناء جلدتها.

كل ذلك يدفع بأسس العملية الديمقراطية الغربية نحو الانهيار تقريباً. على سبيل المثال، حين اضطر بوريس جونسون للاستقالة بعد تكرار انتهاكه للقانون واستمرائه الفضائح وتبريرها بأي شكل، اختار حزب المحافظين ليز تراس خلفاً له.

أي أن بضع عشرات الآلاف قرروا من يحكم أكثر من ستين مليوناً. ولما كان التنافس النهائي بين ريشي سوناك وزير الخزانة السابق وهو من أصل هندي وليز تراس وزيرة الخارجية وهي من الريف الإنجليزي، اختار أعضاء الحزب الحاكم تراس ليس لأنها الأكثر كفاءة أو مهارة ولكن لمجرد أنها «شبههم». ولم يكن هناك أوضح من ذلك عنصرية مدمرة للعملية الديمقراطية كلها.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mrxmnbtz

عن الكاتب

يشتغل في الإعلام منذ ثلاثة عقود، وعمل في الصحافة المطبوعة والإذاعة والتلفزيون والصحافة الرقمية في عدد من المؤسسات الإعلامية منها البي بي سي وتلفزيون دبي وسكاي نيوز وصحيفة الخيلج. وساهم بانتظام بمقالات وتحليلات للعديد من المنشورات باللغتين العربية والإنجليزية

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"