يفعلون عكس ما يقولون

01:11 صباحا
قراءة 3 دقائق

محمود حسونة

الدبلوماسية ليست دائماً بريئة، ولا تستهدف في كل الأوقات حل الأزمات، بل أحياناً تكون وسيلة خداع للشعوب، وتكون لها أهداف خفية تختلف تماماً عن أهدافها المعلنة. والمؤتمرات التي تعقد لحل أزمات دول لا تكون أحياناً سوى مسكنات تحقن بها الدول الكبرى، الشعوب المأزومة لتخديرها بما يضمن إبقاء الوضع على ما هو عليه أطول فترة ممكنة، والبعض الآخر يكون مهموماً بالبحث عن حلول جدية لإخراج هذه الدول من أزماتها ووضع حد لمعاناة شعوبها، وهي الدول الداعية باستمرار لاستقرار العالم ونشر السلام والأمان بين ربوعه.

المؤتمرات التي عقدت بشأن ليبيا منذ 2011 وحتى اليوم كانت كفيلة بحل أزمات العالم كله لو صدقت النوايا، ولو توافرت الإرادة لذلك لدى المفاوضين سواء من الليبيين أو من الدول الطامحة للسطو على قرارها وثرواتها وخيراتها، وللتحكم في شعبها والمدبرة لصراعاتها والمزودة ميليشياتها بكل أشكال وألوان الأسلحة.

وكأن المؤتمرات التي جمعت أصحاب المصالح في ليبيا في قاعة واحدة وعلى طاولة واحدة في هذه العاصمة أو تلك لم تكفِ لوضع حلولٍ للأزمة منذ اتفاق الصخيرات 2015 وحتى اليوم، ولذا تم الاعلان مؤخراً عن بدء التحضير للنسخة الثالثة لمؤتمر برلين، والثالثة لن تكون «ثابتة» هذه المرة بل ستكون مجرد حلقة في سلسلة من المؤتمرات التي لن تنتهي ولن تجدي نفعاً لليبيين، وستظل مجرد وسيلة لجمع الفرقاء حول الجسد الليبي الذي أصابته الأزمات الحياتية والصراعات السياسية والتوترات الاجتماعية بالوهن، وحولته إلى جسد عاجز عن تحمل مسؤولياته تجاه وطنه بعد أن تصارعوا عليه ويسعون لتقاسمه نفوذاً والتحكم في مصيره حاضراً ومستقبلاً إن لم يستجمع هذا الجسد قواه وينتفض على أصحاب المصالح ويستعيد قوته المفقودة وإرادته المسلوبة.

بعض الدول التي ستجتمع في برلين حول ليبيا وقفت في السابق علناً مع حكومة السراج، ومدت الجيش الليبي سراً بالسلاح، وبعضها لا يزال ممتنعاً عن حسم موقفه من حكومة الوحدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة المنتهية ولايتها وحكومة الاستقرار برئاسة فتحي باشاغا المكلفة من البرلمان، وبعضها يدعم أكثر من ميليشيا.

كثير ممن يتفاوضون بشأن ليبيا يقولون عكس ما يفعلون، وهو ما ينطبق على مسؤولي الداخل الذين تعتقد أن لديهم الاستعداد لبذل الغالي والنفيس لأجل استقرار ووحدة ليبيا، ولكن عندما يستلزم ذلك تخليهم عن مناصبهم تجدهم يكيلون التهم لمن يفترض أن يخلفهم، ويستخدمون كل أدوات السلطة وخزائن الدولة لاستقطاب الميليشيات والمرتزقة والتابعين، ولو أتيحت لهم الفرصة لتصفية أشقاء الوطن وخصوم السياسة يفعلونها من دون أن يهتز لهم رمش.

في المقابل، المفاوضون الخارجيون معظمهم أيضاً يقولون ما لا يفعلون، ويصرخون للإعلام بما يخالف مخططاتهم الجهنمية لتظل ليبيا راقدة في سبات عميق، يطالبون في كل مناسبة بحل الميليشيات وإخراج المرتزقة، وهم في الواقع يدعمون المسلحين ويغمضون جفونهم عن المرتزقة. يتحدثون عن ضرورة استقرار ليبيا وهم يشاركون في إثارة القلاقل بين أبنائها وإشعال الفتنة بين مناطقها وإثارة النعرات القبلية بين قبائلها. يتحدثون عن ضرورة إجراء انتخابات نيابية ورئاسية ويتوعدون من يعطلها بأغلظ العقوبات ويغضون النظر عن تجاوز الموعد الذي أقروه للانتخابات ويدعمون من يعطلها.

النسخة الثالثة المنتظرة لمؤتمر برلين لن تجدي نفعاً في ليبيا إلا في حال تنازلت الدول الكبرى والفاعلة عن أطماعها الضيقة، ووضعت مصلحة الشعب الليبي فوق كل الاعتبارات، وإلا سيكون مجرد حلقة جديدة في سلسلة المؤتمرات التي عقدت على مدار سنوات.

الأسبوع الماضي وضعت دولة الإمارات أمام الأمم المتحدة وصفة العلاج التي تحدثت عنها هي والدول الصادقة النوايا في البحث عن مخرج للأزمة مراراً حيث أكدت ثوابتها: عقد الانتخابات البرلمانية والرئاسية «تبقى مطلباً مشروعاً للشعب الليبي»، ضرورة «استئناف الحوار بين أطراف الأزمة الليبية، أهمية اتخاذ خطوات جادة لتوحيد المؤسسات العسكرية والأمنية وضرورة خروج كل القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا».

حل الأزمة الليبية ليس أمراً مستحيلاً ولكنه يستلزم قبل كل شيء صدق نوايا الكبار والفاعلين، وتحويل الأقوال إلى أفعال وتحويل مرحلة المطالبات والوعود إلى مرحلة التنفيذ، والكف عن تخدير الشعب الليبي بعد أن فقدت المسكنات فعاليتها.

[email protected]

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ehvy78fk

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"