العولمة والإنثروبولوجيا الرقمية

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

للمرة الأولى منذ بدء التاريخ البشري، تتغيّر سمات التواصل الإنساني بشكل نوعي، ويغدو مفهوم المجتمع بمعناه المباشر مفهوماً قديماً إلى حد كبير، بعد منافسة المجتمع الشبكي له، الذي فرض نفسه، بشكل متزايد، إثر الانفجار العولمي/ الكوني الذي أحدثته الثورة الصناعية الرابعة، بما قدّمته من منتجات في مجالي التقانة والاتصالات، وهي أيضاً المرة الأولى التي تشهد فيها البشرية هذا القدر من التواصل السريع والمباشر، عبر الفضاء الإلكتروني، والمرشّح يومياً لحدوث طفرات جديدة.
 ليست هناك أية مبالغة إذا قلنا إن المجتمع الشبكي يمثّل روح العصر الذي نعيشه منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وذلك ضمن ما يسمى «الحداثة المتواصلة»، بما تحفل به من تناقضات، أو حتى بما تتضمنه من تحولات في العلاقات الإنسانية نفسها، محمولة على تحوّلات عميقة في بنية النظام الرأسمالي، وتحوّلات موازية في العلاقة بين المجتمع والفرد، والانتقال من مركزية الفرد التي بدأت بترسيخ نفسها منذ القرن الثامن عشر إلى فردانية متمحورة على ذاتها في المجتمع الشبكي.
 إزاء هذه الروح الجديدة لعصرنا، تواجه الإنثروبولوجيا (علم الإنسان) تحديات عديدة، فإذا تم الإقرار بالتحوّل النوعي لطبيعة المجتمع ذاته، من حيث التأثّر والتأثير، فإن تحليل العلاقات في المجتمع الشبكي، وما توجده من أنماط استهلاكية وثقافية، يحتاج إلى مناهج وأدوات مختلفة، تتناسب مع هذه التحوّلات العميقة التي يشهدها التاريخ الإنساني، خصوصاً أن هذا المجتمع الشبكي يربط من الناحية العملية بين نقاط متباينة واحتمالية في الوقت ذاته، ما يجعل من التكهّن بردود الأفعال الناتجة عن طرق التأثّر والتأثير الجديدة أمراً بالغ التعقيد.
 التركيز الأساسي لعلم الإنثروبولوجيا ينصب على دراسة الظواهر الإنسانية، وما يطرأ عليها من تحوّلات، خصوصاً تلك التحوّلات التي تُحدث تغيّرات واضحة في السلوك، والجديد الجذري الذي طرحته العولمة هو قوة الافتراضي، التي فرضت بشكل، ربما لا عودة عنه، تقسيم العالم إلى واقعي وافتراضي، في حالة جدل متواصلة فيما بينهما، في طريقها (أي حالة الجدل بين الواقعي والافتراضي) إلى تكريس كينونة إنسانية جديدة، يصبح للافتراضي فيها قوة مؤثّرة لا تقلّ عن الواقعي، وأحياناً تتفوّق عليها من حيث التأثير.
 إن واحدة من أهم المتغيّرات التي حدثت في العصر الشبكي هو تقلّص القدرة على الحد من تدفق المعلومات، أو حجبها بشكل تام، وهو ما يدفع أيضاً نحو حدوث تحوّلات تطال أيضاً مفهوم السلطة، مفهوماً مركزياً في العلاقات الإنسانية، وفي مدى أوسع، فإن أحد مقاييس المجتمع الديمقراطي في عصر الشبكة هو إمكانية وحرية الأفراد في الوصول إلى مصادر المعلومات، وهو ما يتزامن أيضاً مع مفهوم اقتصادي جديد هو اقتصاد المعرفة، الذي أصبح في جوانب عديدة منه اقتصاداً يتمتع بمستوى كبير من الاستقلالية في آليات الإنتاج والاستهلاك؛ بل إنه يتحكم أيضاً في مسارات الإنتاج التقليدية.
 فهم الظواهر التي يطرحها العصر الشبكي، تفرض تعاوناً شبه إلزامي بين الإنثروبولوجيا وعلم النفس؛ بل يمكن القول إن الإنثروبولوجيا الرقمية تأخذ مساراً نفسياً - ثقافياً لفهم الظواهر الإنسانية الجديدة، ففي العصر الشبكي، هناك شيء من الإلحاح العملي لقضايا الذات والهوية، فللمرة الأولى يغدو الإنسان معرّضاً لهذا الكمّ الهائل من التدفق المعلوماتي، من دون أن يمتلك بالضرورة الإمكانات المعرفية أو النفسية للاستقبال، أو التحليل، أو حتى النأي بالنفس عما هو مشوّش للذات، فالتعرّض العشوائي، على سبيل المثال لا الحصر، للأفكار والصور، يضع الذات أمام تحديات غير مسبوقة، خصوصاً مع تنوّع المصادر، وما ينطوي عليه هذا التنوع من تناقضات.
 أتاحت الشبكة للفرد أن يعرض ويستعرض في الوقت ذاته نفسه أمام الآخرين، وهذه الإمكانية بحد ذاتها تنطوي على مخاطر كبيرة، لا تتعلق فقط بالفرد؛ بل تتعداه إلى المجتمع الواقعي والافتراضي.
 قد يكون من المبكر الجزم بطبيعة التحوّلات القيمية التي فرضها المجتمع الشبكي، خصوصاً أن القراءات الإنثروبولوجية لهذه التحوّلات ستكون في الكثير من جوانبها ذات نتائج غير مستقرّة، فهي لا تتعاطى مع مجتمع ذي خصائص متبلورة نهائياً؛ بل مع مجتمع لا يزال في طور التبلور، والتفاعل معه، أو طرق التأثّر به، ليست واحدة في كل مكان من العالم، لكن من المهم، أو أقلّه، عدم الركون للمناهج التقليدية في فهم معطيات الكينونة الإنسانية الجديدة.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3dzjza9j

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"