زمن الإبداع الميت

01:00 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

يشبه الزمن العربي الإبداعي، في ما يتعلق بالمنتج الفكري، السوبر ماركت، فالتراث النخبوي بأكمله: الفكري والأدبي، والذي لم يجد من يكتبه بلغة جديدة، عثر على من يقرأه بعشرات المناهج والأدوات ومن مختلف الأيديولوجيات ووجهات النظر، على الأرفف ستجده كما هو قابعاً بكلماته العتيقة المنفتحة على آلاف التأويلات. تراث تمت كتابته على مدار أربعة عشر قرناً وتحول بظروفه وأطره وأطروحاته وبراهينه إلى مغارة علي بابا، الكل يغرف كما يشاء والكل يعيد الإنتاج والتأويل، والكل يعجز عن تجديده وجعله يقف على قدمين، وتلك المغارة خرج منها عشرات الباحثين بعملات نادرة، على أحد وجهيها القرامطة مثلاً وعلى الوجه الآخر الاشتراكية، المعتزلة/ العقلانية، ابن رشد/ ديكارت، الغزالي/ توما الأكويني...إلى آخر تلك المماثلات التي أفرزتها تلك المغارة.

ولأن التراث مغارة مفتوحة واللحظة مفارقة والخطاب مهما ادعى العلموية لا يفرز في النهاية إلا الإنشاء فالكل يبدأ مشروعه التراثي، وهم بالمئات، من نقطة صفرية. فبرغم مئات الكتب والتوجه الجماعي للتراث، والندوات وورش العمل والمعارك الفكرية والرسائل الجامعية ودور النشر المتخصصة، برغم هذا الزخم لم تتأسس مدرسة في قراءة التراث يبني فيها هذا المفكر على أطروحة من سبقه، أو يؤسس ذاك الباحث لسؤال إشكالي يجيب عنه من يلحقه، كان الجميع يقدم إجابات توكيدية مغلقة، إجابات لم تحاول أبداً أن تخفف من عبء أحكامها النهائية حتى بعد النقد والنقاش في إصدار طبعة ثانية من الكتاب يضيف إليها المفكر بعض ما اكتسبه من الآراء المختلفة ووجهات النظر المتباينة، وخير دليل على ذلك النقد الذي وجهه جورج طرابيشي في أربعة أجزاء لمشروع «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري. فالأول لم يستطع في نهاية عمله صياغة أطروحة مكملة أو نقيضة لأفكار الجابري التي هيمنت على الساحة الثقافية العربية لعقدين من الزمان، ولا الثاني أخذ بملاحظات طرابيشي في طبعة جديدة من مشروعه، وأبرز ما فعله صاحب نقد النقد، طرابيشي، أن دخل المغارة وأظهر خطأ الجابري في النقل والاقتباس وأحياناً الفهم. وعلى من يقارب موضوع العقل العربي مستقبلاً أن يدخل المغارة ليغرف منها مرة أخرى، وهو ما يؤكد أننا لا نراكم في أطروحاتنا المركزية.

لم يكن المنتج الأدبي أفضل حالاً من المنتج الفكري، وخاصة الشعر، ولا يمكن أن نعثر على ثقافة أخرى يتعايش فيها إلى الآن وفي ذات الوقت: القصيدة العمودية والحرة وقصيدة النثر، وقصيدة الومضة، ويتجاور بداخلها شعر المديح والفخر والرثاء والهجاء مع الانشقاق والتمرد والاغتراب والضياع. هو الثبات الذي يراوح مكانه، ولا يؤدي إلى شيء جديد مفارق.

وصف محمد عابد الجابري ذات مرة الزمن العربي بأنه «زمن ميت أو قابل لأن يعامل كزمن ميت»، فهل يمكن وصف الزمن بالميت؟ وهل التاريخ العربي سكوني بالفعل أم أن تلك النتيجة تم التنظير لها وصناعتها وترويجها لأسباب تتعلق براهن المثقف نفسه؟ ولكن تلك قصة أخرى.

 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3beabncj

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"