تركيا والأبجدية والحضارة والسياسة

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. محمد نور الدين

تعد تركيا من الدول الأبرز في العالم الحديث التي دخلت في اختبارات حضارية متعددة بدءاً من شكل الحكم إلى الميل الفكري لاتجاهات معينة إضافة إلى اختبار تغيير الأبجدية أكثر من مرة.

وقد خلقت هذه التحولات مشكلات كثيرة، وأحدثت سجالات لم تنتهِ بعد ولا يقدر لها أن تنتهي. ومنطلق هذه النقاشات كانت محاضرة لرئيس كتلة حزب العدالة والتنمية في البرلمان ماهر أونال، وهو يعد من المواقع المهمة والأصوات المؤثرة داخل الحزب.

انتقد أونال ما سُمي ب«ثورة اللغة» والتي هي جزء من الإصلاحات التي قام بها مصطفى كمال أتاتورك بعد إعلان الجمهورية عام 1923. وشملت قوانين الثورة الأحوال الشخصية، واعتماد قانون مدني لا ديني، والزي، والتعليم، إلى جانب تغيير الأبجدية التي كانت تكتب بها اللغة التركية وهي العربية- الفارسية، وكانت تُعرف باللغة العثمانية. واعتمد أتاتورك الحرف اللاتيني معدلاً؛ بحيث تجسد كل لفظ بحرف وصار الحرف الذي يلفظ يكتب.

عشية الذكرى المئوية لإعلان الجمهورية كان ماهر أونال يعد أن تغيير الحرف العربي إلى لاتيني حال دون أن تنتج ثورة أتاتورك فكراً تركياً وأعاق حركة الحضارة التركية.

وقال أونال: إن الثورات الكبرى في العالم لم تمس اللغة ولا الأبجدية، من الثورة الفرنسية إلى الصينية كما لم تحد الأبجدية القديمة المستعملة في اللغتين اليابانية واليونانية من تقدم البلدين ونهضتهما، بينما الثورة التركية كانت الأقسى، وغيّرت الأبجدية.

بطبيعة الحال يمكن التبسط كثيراً في شرح عوامل التقدم لدى الشعوب، وما إذا كان للغة أي دور حاسم فيها أم لا، وما إذا كانت الأبجدية نفسها لها دور في ذلك أم لا.

ويمكن التبسط كثيراً في تقليب أوجه السلبية أو الإيجابية في تغيير أبجدية أي لغة. لكن المسألة في تركيا لم تعد مجرد مسألة لغة؛ بل تحولت إلى مماحكات ومناكفات بين دعاة التيار الغربي العلماني ودعاة التيار الإسلامي.

والمشكلة التي تواجهها تركيا أن الإسلاميين نظروا إلى التيار الغربي على أنه تيار معاد للإسلام، وهذا غير صحيح وغير دقيق. والمشكلة أن التيار الغربي نظر إلى الإسلاميين على أنهم يعادون التقدم ودخول عصر الحداثة وهذا أيضاً غير صحيح وغير دقيق.

بعد نحو المئة عام من «ثورات» القوانين الأتاتوركية، لا يزال النقاش بين التيارين الإسلامي والعلماني هو نفسه يتكرر ومن دون فائدة.

في نقاش بين التيارين شكت نخبة وازنة من المثقفين العلمانيين، جوهر العقبات التي تعيق تقدم البلاد. وفي رأس هذه العوامل، الديمقراطية والمساواة. وليس أسهل من الإشارة إلى أكثر من خمسة انقلابات عسكرية أطاحت السلطة المدنية القائمة. وليس أسهل من التذكير بعشرات قوانين كمّ الأفواه والاعتقالات الكيفية والإعدامات لنرى كيف أن تركيا لم تتأخر عن ركب التقدم، بسبب اللغة أو الأبجدية. وكما هناك حضارات سادت على الرغم من أبجديتها القديمة، هناك حضارات تراجعت على الرغم من «حداثة» لغتها.

أسوأ ما يمكن أن يحدث أن يُقحم موضوع فكري في خضم الصراعات السياسية. وهو ما يحصل في تركيا؛ حيث لا يستبعد أي طرف استخدام كل أنواع الأسلحة المحرمة من أجل البقاء في السلطة أو الوصول إلى السلطة.

ومن ذلك إثارة مشكلة الحجاب، مؤخراً، ودعوة بعض العلمانيين لقوننة حماية من تريد ارتداء الحجاب، فما كان من التيار الإسلامي إلا أن دعا إلى إدخال مسألة حماية الحجاب في الدستور. والطرفان لا يريدان سوى امتطاء فرس الحجاب، لكسب أصوات إضافية هنا وهناك. الأمر نفسه ينطبق على انتقاد تغيير الأبجدية؛ وذلك بهدف كسب أصوات إضافية من التيار الديني كما لو أن الأبجدية أو اللغة بحد ذاتها لها لون علماني أو ديني.

سوف تشهد تركيا من اليوم وحتى حزيران/ يونيو المقبل موعد الانتخابات الرئاسية، واحدة من أكبر المعارك في تاريخ تركيا الحديثة، وسوف تستخدم فيها كل الأسلحة الفتاكة والمحرمة والمثيرة للفتن من أجل فوز كل طرف بها، هذا إذا لم يُدخل المتحاربون تركيا في نفق طويل أو يوقعونها في بئر لا قاع لها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/j8r774uf

عن الكاتب

باحث ومؤرخ متخصص في الشؤون التركية .. أستاذ التاريخ واللغة التركية في كلية الآداب بالجامعة اللبنانية.. له أكثر من 20 مؤلفاً وعدد من الأبحاث والمقالات

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"