عادي

خالد البدور.. عفوية الشعر

00:38 صباحا
قراءة 4 دقائق
1

يوسف أبو لوز

في هذه الزاوية، نحتفي بمجموعة من أبرز مبدعينا الذين قدموا لمسات أدبية جمالية وإمتاعية، أثرت الوجدان، وارتقت بذائقة القراء، منحونا زاداً عبـّر عن إنجازات الوطن وتحولات المجتمع وهموم البشر، كانوا ذاكرتنا التي تؤرخ للمكان ومدونتنا التي عبرت بصدق وإخلاص عن آمالنا وأحلامنا، هم قناديلنا التي نسترشد بها في دروب الحياة.

يجمع بين الشعرين: النبطي الشعبي، والفصيح، ومثل كثير من شعراء الإمارات بدأ تفعيلياً خليلياً، ولكن كانت قصيدة النثر خياره الأخير، ربما لأنه وجد في هذا النوع من الكتابة عفوية في الصورة والجملة الشعرية، وهو أيضاً إلى جانب الشعر عرف صناعة الأفلام الوثائقية، كما لو أنه بذلك يتكامل أدبياً وعائلياً مع رفيقة دربه الشاعرة والسينمائية نجوم الغانم، وكم هي غنية تلك الثنائيات الزوجية أو العائلية التي تتشارك روحياً وثقافياً في صناعة الفرح العام الذي نتذوّقه عادة في الفنين الغنائيين: الشعر، والسينما، وإلى جانب ذلك كله يخامرني شعور غامض بأن خالد البدور «مواليد دبي 1961» يعرف الرسم، ويقبض على الكاميرا الفوتوغرافية كما لو يقبض على آلة موسيقية، وهو قبل وبعد ذلك ممتلئ أو «مؤثث» بالهدوء والحدوس والتوقعات، شأنه شأن الحساسية القصوى التي تستحوذ على الشعراء «الغنائيين».. البالغي الخفة والشفافية، وعند الحدوس والتوقعات أتوقف قليلاً، فذات يوم وكان ما بعد الظهيرة بقليل، وكنّا في دبي في طريقنا إلى مطعم شعبي إماراتي، قال لي خالد البدور.. بعد قليل ستمطر، وسترى ذلك بعينيك، وكان قد رفع رأسه إلى الغيوم وقرأ وجه الغيوم، وكذلك فعلت، وكان أن تساقط المطر بعد نحو نصف ساعة.

أوردت هذه القصة لدلالتها العامة وليست الخاصّة، فأهل الإمارات، وأهل المنطقة الخليجية عموماً، يكادون يشمّون رائحة المطر حتى قبل أن يهطل وهو في بطن الغيوم، وهو إن شئت في الثقافة الشعبية وفي التراث الشعبي شكل من أشكال الحدس أو الحدوس التي يتمثّلها الشعراء، والإمارات بلد شعراء وشاعرات رؤوسهم دائماً نحو السماء. نحو الغيم وقراءة الغيم.

وُلِدَ خالد البدور في دبي، في قرية صغيرة، كما يقول في إحدى شهاداته حول حياته وسيرته. والشعر عند أهل القرى هو ثقافة ومتعة وأفق اجتماعي قولي أو شفهي إن جازت العبارة.

كانت والدة خالد البدور سيدة محبة للشعر الشعبي. ومنها كما يقول سمع القصائد الأولى، وكان يكتب لها الشعر: «.. لأجعلها سعيدة..»، وتلك السعادة المتبادلة، كانت الخطوة الأولى نحو شاعرية أو شعرية البدور.

أفق

المكان الدبوي بطبيعته الفطرية هو مكان شعري. الناس في هذا الأفق الإماراتي «المائي، والصحراوي، والجبلي» يكتبون الشعر بالفطرة، والفطرة أقرب إلى الشعر النبطي، وفطرية خالد البدور سوف تأخذه - إلى النبطي أولاً ليتحوّل بعد ذلك إلى الفصيح، وقد يستغرب القارئ المتخصص في الشعر كيف لشاعر نبطي، كلاسيكي أو تقليدي أو مُحافظ أن يتوجه إلى قصيدة النثر في أقصى اليسار من الحداثة؟ ولكن الشعر هو الشعر. إن كان نبطياً أو فصيحاً حداثياً أو ما بعد الحداثة، غير أن السؤال الذي يتكون تلقائياً هنا هو: هل كانت لقراءات خالد العائلية أو هل كانت لمكتبة الوالد آثار معيّنة في كلاسيكيته الطفولية آنذاك؟

الجواب: نعم، وخالد البدور يؤكد أثر القراءات المرجعية في طفولته في شهادة له بالغة الأهمية تضيء على طفولته، بل، وتضيء على طفولة المكان الدبوي الإماراتي قبل أكثر من نصف قرن من الزمان.

أول مشهد قرائي في ذاكرة خالد البدور هو صورة والده حين كان يعود من صلاة المغرب ويشعل مصباح الكاز ويجلس ليقرأ قبل تناول العشاء في حيّ جميرا وسوف يتعلق الطفل أو الصبي الذي كان البدور آنذاك، وكان ذلك في مطلع ستينات القرن العشرين.. بكُتب الوالد «رياض الصالحين» مثلاً، أي أنها في البداية ثقافة دينية، ثم يكون ذلك الطفل محظوظاً بمكتبة الأب ويأخذ تالياً باختيار كتبه هو، وسوف يتعلق بكتاب «جواهر الأدب.. في أدبيات وإنشاء لغة العرب..» لمؤلفه: أحمد الهاشمي. آنذاك في جميرا لم تكن الكهرباء قد وصلت إلى البلاد. كانت قراءات خالد على مصباح الكاز.

بيئة

أستطيع القول هنا في هذه الصورة القلمية أن البيئة الستينية الدبوية كانت بيئة ثقافية متاحة. ولن يكتفي خالد البدور بمكتبة الأب، ستأخذه خطاه إلى «المكتبة العامّة» في دبي وكانت قد تأسست في العام 1962 على خور دبي. وهناك كما يقول البدور في المكتبة العامّة سيتعرف للمرة الأولى إلى جبران، وأبي ماضي، والخوري، والسيّاب، والملائكة، وقباني، ودرويش.

تأسس خالد البدور على أسماء روائية أيضاً: إحسان عبدالقدوس، محمود تيمور، عبدالحليم عبدالله، وبالطبع سيتعرّف إلى ألف ليلة وليلة.

أما الشرفة التالية فستكون الآداب العالمية: دوستوفسكي، غوركي، غوغول، وأدب أمريكا اللاتينية، والأدب الفرنسي.

هذه التكوينات التأسيسية لا تتوفر لأي قارئ أو لأي كاتب. ونعود ثانية للقول إن من تتوفر له مكتبة أب، ومكتبة مدينة في الوقت نفسه هو أكثر من محظوظ.

في العام 1992 صدرت المجموعة الشعرية الأولى لخالد البدور تحت عنوان «ليل».. عنوان موجوز، قاطع، بل يكاد يكون عنواناً «صامتاً» إذا أحلنا الصمت إلى الليل.

كانت مجموعة «ليل» هي مجموعة قصائد نثر، وكانت قصيدة النثر آنذاك أي قبل حوالي ثلاثة عقود تواجه نوعاً من التحفظ بل والمساءلة النقدية على اعتبار أنها قصيدة خارجة على الوزن والعروض والقوافي، وكانت هذه المواجهة ليست في الإمارات فقط، بل وفي منطقة الخليج، غير أن المفاجأة هنا، كانت مفاجأة إعلامية لمصلحة خالد البدور على مستوى عربي، فبعد صدور مجموعته «ليل» لمع اسمه عربياً. وذلك بعد فوز هذه المجموعة بجائزة كانت تعطى آنذاك لشعراء قصيدة النثر العرب الجدد والمجددين وهي «جائزة يوسف الخال للشعر»، وهكذا، جلس البدور، إن أمكن القول، في المقاعد الأولى في قطار قصيدة النثر، ليصدر بعد ذلك مجموعات أخرى عززت اسمه في خريطة قصيدة النثر العربية.

خالد البدور مارس العمل الإعلامي التلفزيوني والإذاعي والعمل الصحفي الثقافي. أنجز أفلاماً وثائقية منتقاة وبالغة الدقة في اختيار مادتها المكانية والجمالية. له اهتمام بالثقافة الشعبية، انتقائي أيضاً على مستوى العديد من المواد الثقافية التي ينقلها إلى العربية بترجمات صافية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/yckuvn8s

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"