التفوق الدراسي والحياة العملية

00:48 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. مصطفى الفقي

يدهشني كثيراً أن أتأمل رفاق الدراسة في المدارس والجامعات منذ كنت غلاماً حتى اليوم؛ حيث أرقب زملائي، وكيف تطورت أحوالهم، وانتقلوا من مقاعد التعليم إلى ميادين الحياة العملية، وألاحظ أنه لا توجد علاقة حتمية بين التفوق الدراسي والنجاح الباهر في الحياة العملية. قد يحدث أن يملك البعض الأمرين معاً، لكن لا توجد قاعدة لزومية للارتباط بينهما. فكثير من العظماء والمرموقين لم يكونوا من متوهجي الفكر ولا متقدي الذكاء؛ بل إن بعضهم اتسم بالتخلف الدراسي، والبلادة في التحصيل. لم يكن ونستون تشرشل طالباً مرموقاً، ولم يكن مجدي يعقوب طفلاً يجيد الحديث ويهوى الحوار، وقس على ذلك عشرات النماذج والأمثلة التي تؤكد أنه لا يوجد ارتباط شرطي بين التألق في الطفولة والصبا والتفوق في الشباب والشيخوخة، فلكل من هذه الأمور المرتبطة بالإنسان أسباب وعوامل قد لا تتوفر دائماً في كل الحالات.

وأصاب بالدهشة كثيراً عندما أرى الصحف تتبارى في تمجيد المتفوقين دراسياً، وأحاول تتبع مسيرة بعضهم، فلا أجدها ماضية على الطريق الصحيح، وأكتشف أن التفوق الدراسي ليس بالضرورة تعبيراً دقيقاً عن التميز الشخصي أو مؤشراً للنجاح في الحياة العملية، فالكر والفر بين صفحات الكتب المدرسية؛ بل وحفظ بعضها عن ظهر قلب، لا يعد دليلاً على التفوق بقدر ما هو دليل على الحرص لتحقيق النجاح، والانتقال من صف إلى أعلاه.

ولقد تذكرت الكثير من المتميزين من زملائي في مراحل الدراسة المختلفة، وبحثت عنهم لأجد أن بعضهم حقق نجاحاً ملحوظاً، لكن الأغلب الأعم منهم لم يتوفر له ما كان يتطلع إليه من مكانة نتيجة تميز في الحياة العملية وميادين العمل المختلفة. وبالمناسبة فإنني أؤكد هنا أن ارتفاع المجموع الكلي لدارس ما، لا يعني إضافة إلى مكانة العلم في بلده، وأنا أتذكر كيف كان يحصل بعض الطلاب في الشهادات العامة خصوصاً الأجنبية منها على درجات تتجاوز المئة في المئة، ولا أجد تفسيراً لهذه الظاهرة حتى الآن، وإن كانت قد بدأت في الاختفاء؛ لذلك كان أوائل الطلبة يلتحقون بكليات جامعية لا تتفق مع اهتماماتهم وميولهم، لكنها فقط تستثمر الجزء الأكبر من المجموع الكلي في سنواتهم الدراسية، وكان ذلك في رأيي مبرراً للقلق، وتعبيراً عكسياً عن المستهدف من مخرجات العملية التعليمية، ويجب أن أسجل هنا الملاحظات الآتية:

أولاً: إن التعليم قد تحول إلى سلعة تباع وتشترى، وتقف وراءه أحياناً – خصوصاً التعليم الخاص والأجنبي – دوافع تتصل بتحقيق الأرباح من دون النظر إلى تأثير ذلك في مستقبل الأجيال وطبيعة العلاقات الاجتماعية والإنسانية بينها، فالتفاوت الشديد في المصروفات الدراسية يصنع نوعاً من العبث الطبقي، ويؤدي إلى اهتزاز القيم، وتراجع قيمة العلم على كل المستويات.

ثانياً: إن التعليم كالجندية يجب أن يتساوى أمامها الجميع، فهما عمودان لانصهار المجتمعات التي تقوم على مبدأ المواطنة وحده ولا تفرق بين غني وفقير وقادر وعاجز، ولقد كان التعليم على عهد آبائنا وأجدادنا يقوم على التكافؤ الحقيقي للفرص ويجلس ابن الغني إلى جانب ابن الفقير بلا تفرقة، بينما أصبح التعليم حالياً نوعاً من التميز الاجتماعي الذي يؤدي إلى توسيع الهوة بين الطبقات.

ثالثاً: إن الارتباط بين التفوق العلمي والمصروفات الدراسية يجب أن يكون حافزاً أمام الأجيال القادمة، لكي تدرك أن التفوق الدراسي يؤدي إلى تخفيض تلقائي في المستحقات المالية المطلوبة من كل طالب أو طالبة؛ بحيث يكتشف الجميع أن ما يحققه علمياً ينعكس عليه اجتماعياً بشكل مباشر، وبذلك تنتهي سطوة الطبقات على بعضها.

رابعاً: ينبغي أن تنتهي النعرات المتصلة بالوساطة والتمييز نتيجة العلاقات العائلية أو الارتباطات الوظيفية التي قد تعطي مكاناً لفتى على حساب زميل له أو تسرق من فتاة جهدها الذي تستحقه، فتكافؤ الفرص يجب أن يبدأ من مراحل التعليم المختلفة، لكي يكون عنواناً دائماً في كل المراحل؛ بحيث تلتزم المؤسسات التعليمية بأكبر قدر من ديمقراطية التعليم على نحو يؤدي إلى اختفاء الدروس الخصوصية ويدفع إلى المشاركة الجماعية التي تقتضي البدء بالمدرس فهو جوهر العملية التعليمية وعمودها الفقري والارتقاء بمستواه ثقافياً وفكرياً فهو الوسيلة الوحيدة للنهوض بالأمم وتحضر الشعوب، فالعلم لا وطن له، لكن للطلاب أوطانهم وعائلاتهم وهمومهم.

أختتم هذا الحديث بأن أتذكر زيارة السفير البريطاني لي في مكتبي الخاص أثناء الأيام الأولى لثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 والحشود مرابطة في ميدان التحرير، يومها سألني السفير: ماذا يمكن أن تقدم بريطانيا للشعب المصري في ظروفه هذه؟ فقلت له: المساعدة على النهوض بالتعليم أولاً وثانياً وثالثاً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/34abt2de

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"