شتاء بارد وقلوب باردة

00:13 صباحا
قراءة 4 دقائق

مياه كثيرة تدفقت تحت الجسور في الأيام الأخيرة. تدفقت بسرعة، وبتدافع غير عادي مخلفة مشهداً غير مألوف. ولست متأكداً، على كل حال، إن كان الجديد في المشهد ثابت الأركان، وأن المياه لن تعود إلى مجاريها. ولست متأكداً، ولا أحد أقنعني بأن ما تغيّر باق معنا، وأن الأمل عاد كبيراً في نهاية قريبة لفوضى كادت تدمر كل ما هو قائم.
  سمعت من ألمانيا أن حواراً يجري هناك على مستويات مختلفة. الحوار جاد ككل حوارات ألمانيا التي جرت في أوقات وحالات تغيير المصير. وليس جديداً أن نسمع أحكاماً حازمة في سياسات وعلاقات مع دول أخرى، ولكن الجديد في الحالة الراهنة أن تتعلق هذه الأحكام بأسس النظام السياسي الألماني التي وضعت وكان الظن أنها رسخت. اليوم في ألمانيا هناك من يردد علناً أن الألمان تنازلوا عن بعض مصالح بلادهم القومية مقابل الاحتماء بالمظلة الدفاعية الأمريكية. في رأي هؤلاء أن هذا الاحتماء صار باهظ التكلفة.
  قليلون هم الذين ينكرون حقيقة أثبتتها تجارب أوروبا الموحدة على امتداد سنوات عهد منطقة اليورو، حقيقة أن اليورو ما هو إلا مارك ألماني معدل، وباسم مختلف، وأنه من دون ألمانيا ما وصل الاتحاد الأوروبي إلى ما وصل إليه ، حتى صاروا يقارنون نفوذه بنفوذ واتساع الإمبراطورية الرومانية المقدسة. الفضل كله يعود لألمانيا باستثناء دور المظلة الدفاعية الأمريكية التي تعهدت حماية هذا المشروع ضد طموحات روسيا وأطماعها في أوروبا.
    ليس غائباً عن العقل السياسي الألماني أن السياسات الأنجلو أمريكية قامت على أساس مبدأ الفصل بين ألمانيا وروسيا، ومنع قيام أي نوع من الشراكة القوية بينهما. وليس غائباً عن هذا العقل تفاصيل ما تسببت به حرب روسيا في أوكرانيا، وهي الحرب التي ترتبط بنشوبها شكوك، أكثرها يتهم الولايات المتحدة بالمسؤولية عنها، ولا يمكن أن تكون السياسة الألمانية بعيدة جداً عن العلم بما كان يدبر لروسيا في قيادة حلف الناتو في بروكسل.
  تسببت حرب أوكرانيا في الكثير، وبعضه لا يزال غير قابل للتصديق، وبعضه غير قابل للقبول، أو الاستسلام له. أعادت الحرب إلى الأذهان الألمانية فكرة العدو التاريخي الرابض عبر الحدود، وأقصد العملاق الروسي، القطب الثاني في النظام العالمي الجاهز للرحيل، أو الراحل فعلياً. كان يمكن أن تؤدي هذه الحرب إلى توسيع رقعة نفوذ الحلف الغربي وتعميق دور ألمانيا فيه، وهو ما حدث بالفعل في بداية الحرب، ولكن في مرحلة أخرى من الحرب تغيرت بعض ردود الفعل. رأينا قطاعات مهمة من شعوب وسط أوروبا، وفي فرنسا وإيطاليا، تعترض على الاستمرار في تقديم الدعم المادي والحربي لحكومة أوكرانيا، ليس تعاطفاً مع موسكو بقدر ما هو رد فعل للأزمات الاقتصادية المتتالية والمعقدة.
  ومن ألمانيا نفسها سمعنا أن أحد كبار القادة العسكريين يخرج عن المألوف ويبدي رأيه المهم في العلاقة مع روسيا. نقل عن الأدميرال كاي أشيم شونباخ قوله إن روسيا قوة يجب الاعتراف بها، وإن الاستيلاء على القرم واقع ثابت. هوجم الأدميرال بشدة فلجأ إلى الاستقالة، أو أجبر عليها. ولم يحسم الأمر في ألمانيا، بل ظل مفتوحاً تغذيه تطورات شتى، منها على سبيل المثال الحملة الناشبة ضد الولايات المتحدة التي فرضت على ألمانيا، ودول أخرى في أوروبا، دفع قيمة للغاز المستورد من أمريكا أعلى سبعة أضعاف من القيمة التي كانت تدفعها للغاز الروسي الذي حرمتها من الحصول عليه الولايات المتحدة.
 أتصور أن العقل السياسي الألماني المدرب على الانضباط والاستقرار، يرفض أن يرى أوروبا تنزلق بسرعات مطردة نحو هاوية الفوضى من دون أن يخرج من قمقم وتقاليد الحلف الأطلسي، ويحاول وقف هذا التدهور. وأمامنا اليمين المتطرف الإيطالي يصل إلى الحكم في روما مدعوماً بقوى فساد هائلة يمثلها سيلفيو برلسكوني وحزب الرابطة وقوى الحزب الفاشي. جورجيا ميلوني بصفتها رئيسة الحكومة، ترفع شعارات الحلف الأطلسي ضد روسيا، وبرلسكوني يصّر على مساندته المعنوية لموسكو، وبالتدريج ينطلق هذا الشرخ في الحكومة إلى الرأي العام وأجهزة الإعلام. أما فرنسا العمود الثاني في الخيمة السياسية التي تظلل على أعضاء الاتحاد الأوروبي، فقد فاجأت العالم، وأوروبا بوجه خاص، وألمانيا تحديداً، باستراتيجية أمنية جديدة أطلقها الرئيس ماكرون بنفسه أمام حشد من كبار القادة العسكريين. فوجئ الجميع في فرنسا وأوروبا وفي العالم باستراتيجية فرنسية تركز على إفريقيا والجنوب متجاهلة بعض الشيء أوروبا التي تئن تحت ضغط العجز الأوروبي عن وضع استراتيجية دفاعية لأوروبا. هناك في مكان آخر من القارة شرعت أمريكا وعززت بديلاً مخيفاً، ألا وهو تشجيع الدول الصغيرة في شمال أوروبا للتصدي للخطر الروسي باستراتيجية دفاعية أطلسية المظهر والجوهر، على حساب استراتيجية أوروبية طال انتظارها.
  حتى إنجلترا التي تجسد الخلفية لهذا المشهد الأوروبي، كما جسدت من قبل الخلفية لكل مشاهد التاريخ السياسي الأوروبي، بدت خلال الأشهر الأخيرة في أسوأ صورها.
  جديد أيضاً، وإن كان غير مؤكد تماماً، التغيّر في لهجة الدبلوماسية الأمريكية في كواليس مؤتمري المناخ المنعقد في منتجع شرم الشيخ في مصر، وقمة العشرين المنعقد في منتجع بالي في إندونيسيا. انتبه الأمريكيون، فيما يبدو، إلى أنهم أخطأوا دبلوماسياً حين صنفوا دول العالم ضمن صنفين متناقضين ومتواجهين بالعنف أحياناً، وبالعداء دائماً، صنفان لا ثالث لهما، هما الديمقراطية والأوتوقراطية، أي الدكتاتورية. اكتشفت واشنطن أن الصين وروسيا استفادتا من هذا التصنيف منذ اعتبرت معظم دول العالم النامي نفسها بهذا التصنيف، وقد صارت بالضرورة حليفة لمعسكر تقوده روسيا والصين، وخصماً مرفوضاً من دول المعسكر الغربي.
    دول أوروبا مهددة بشتاء غير عادي وتدهور في الأمن والاقتصاد، ما لم يسرع أصحاب القلوب الدافئة في روسيا وأوكرانيا وأمريكا، ودول بعينها في الحلف الأطلسي، بوقف معدلات الانحدار المتسارع في أنماط سلوكها نحو أنماط خصام وعداء.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3mzcs9ft

عن الكاتب

دبلوماسي مصري سابق وكاتب متخصص بقضايا العلاقات الدولية. اشترك في تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بمؤسسة الأهرام. وأنشأ في القاهرة المركز العربي لبحوث التنمية والمستقبل. عضو في مجلس تحرير جريدة الشروق المصرية ومشرف على صفحة الرأي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"